الاثنين، يناير 31

بديل الثورة

كتبت:
أيوه، كان فيه فوضى (قبل الثورة)، لكن فوضى تفرق عن فوضى وخراب ودمار واقتصاد انهار، في طريقه إلى انهيار أكتر. الناس بس مشغولة لسه بالثورة وبتأمين بيوتها وأهاليها...لسه لما الموضوع ده يهدى والناس تفوق من الصدمة ويبتدوا يبصوا حوليهم ويعدوا ويحسبوا ويشوفوا إيه فعلاً اللي حصل، حتكون الصدمة الكبرى. في راجل محترم طلع في الجزيرة بيقول إن خسائرنا مش حتكون زي خسائر تصدير الغاز لإسرائيل...يا ريت دي تكون الحقيقة فعلاً بعد ما الموضوع ده ينتهي، ومحدش عارف لسه حينتهي امتى.
الثورة حل سريع لإجبار التغيير، واللي ييجي بسرعة ، بيروح بسرعة، والإجبار عمره ما بيجيب دوام الحال.
وعامة ما تقلقش، أنا مش ضد الثورة دلوقتي، لإنه خلاص، الوقت متأخر أوي على إننا نقول بلاش كده يا ولاد...كل الحكاية دلوقتي، إني عايز أكبر عدد ممكن من المصريين، بالذت المثقفين، يحاولوا يفهموا الأمور على حقيقتها، ويفكروا بموضوعية وبدون عواطف عشان يشوفوا الأحداث صح وتكون توقعاتهم واقعية.
سألني صديقي (باختصار): طب ولو مش الثورة دي يعني كان إيه البديل؟؟

كتبت:
البديل كان إصلاح قومي للنفوس؛ انتفاضة شعبية أخلاقية تاخذ سنين قليلة عشان ترجع الشعب إلى دينه وأخلاقه. البديل كان إن الشعب المصري يكون بأخلاقه اللي هوه عليها دلوقتي، بتعاونه ووقوفه جنب بعضه، بحفاظه على الأرواح وشجاعته في عدم ترك أحد أفراده يتخطف من قبل الأمن المركزي...البديل كان إننا نشوف كل الأخلاق الجميلة دي من غير ما كانت تقوم ثورة، نشوفها في شوارعنا وهيئاتنا الحكومية ومكاتبنا وفي كل حته. 
واللي حيقولي أصلي الناس مكنتش لاقية تاكل، حأقوله وهيه دلوقتي لاقية تاكل؟؟؟ أبداً والله...كلها حجج. الإنسان اللي عايز تكون أخلاقه كويسة، حتكون أخلاقه كويسة حتى وهوه بيموت من الجوع. فبدل ما يكون فيه أنانية وجبن وغش وخوف ومحسوبية ورشوة وسرقة وقسوة وسفالة وقلة أدب وتحرش جنسي و...و...ربنا مكنش عايز مننا غير إننا نكون زي ما احنا إنهارده، لكن من غير ثورة...ونكون كده كل يوم، ويكون كده أغلبية الشعب، ويفضل برضو فينا معارضة شجاعة بتتكلم ضد الفساد وبتفضحه في الصحافة وعلى الإنترنت وكل مكان ممكن، لإن الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر وكلمة الحق في وجه حاكم ظالم كلها أجزاء من ديننا، لكن من غير ثورات...لغاية ما يأتي فرج الله، لأنه كان حقاً على الله أن ينصر ويعز المؤمنين، واحنا كشعب مكناش مؤمنين. وتحضرني آيات ربنا للمرة الألف:
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال".
"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون".

قراءة وتحليل بديل للثورات العربية وتصريحاتها

قرائتي للتصريحات الحالية عن أحداث ثورة مصر والعالم العربي تختلف عن قراءة معظم الناس لها. مع احترامي لكل إخواني وأخواتي، ما أقرأه في التصريحات كالتالي:

الغرب يخشى "يتمنى" انتقال عدوى الثورات إلى مناطق أخرى في العالم بما فيها المنطقة العربية وأفريقيا. الآن، وبعد الثورة التونسية والثورة المصرية، السياسة الأمريكية الماسونية المتنوّرة تخشى تنتظر بشغف العدوى، ولكني أقول أنها ليست عدوى بل شفاء وأؤكد أنها عدوى، شفاء عدوى للتخلص من مرض قديم والدخول في عهد جديد بمرض جديد بعون الشيطان للمتآمرين الغربيين.

أما المرحلة القادمة فهي الأخطر. أمريكا لم تعد تملك من المصداقية السياسية ولا العتاد المادي الكثير، بل اقتصادها ودولارها معرض في أي لحظة للتبخر والسقوط نهائياً، فلن تستطيع أن تدخل مصر عسكرياً بنيّة الإصلاح أو حفظ الأمن.

قد تحشد الأمم المتحدة، وهي الواجهة الرسمية للنظام العالمي الجديد، "قوات حفظ السلام" وتقحم بها مع بعض المرتزقة لتؤمن إسرائيل وتيسر التلاعب في البنية التحتية للنظام السياسي والتعليمي والإعلامي بما يخدم أجندة النظام العالمي الجديد والصهيونية الروثتشايلدية. ولكن إن أدى هذا إلى حرب قد تبدأ قبل أوانها، وأوانها هو تدمير اقتصاد بقية الدول الإسلامية، فسيمتنعون عن القيام بهذه الخطوة ويكتفون بإبقاء فراغ وضياع سياسي وقيادي في مصر وبقية الدول لأطول فترة ممكنة، حتى يتمكنوا من إنهاء ما بدءوه في تونس، وإصابة كل دول المنطقة به.

في نفس الوقت، سيستمر المتآمرون في جر رجل الإخوان المسلمين—وهو المثال المصري—إلى الساحة السياسية، بل وإلى انتخابات الرئاسة إن استطاعوا، بإقناع الغرب بأن هذا هو ما سيحدث والاستمرار في الحديث عنه حتى يترسخ في العقل الباطن للغربيين وأيضاً في العقل الباطن للمثقفين العرب، وهو ما يُعْرف بالبرمجة التنبؤية (predictive programming)؛ وفي نفس المواد التي يعملون فيها لهذا الهدف، أيضاً يُخَوّفون العالم والمسيحيين والعَلَمَانيين العرب من حركات إسلامية أصولية—على حد وصفهم هم—مثل حركة الإخوان المسلمين!

وهذا كله بمساعدة عملائهم على المستوى المحلّي، بين الإعلاميين العرب والنظام الفاسد، ب"إتهام" الإخوان المسلمين ببدء شرارة هذه الثورة، والتركيز عليهم قدر الإمكان في الإعلام المحلي، فقناة الجزيرة تظهرهم بطريقة يبدو في ظاهرها الشفافية والحياد، وبقية القنوات تتهمهم بالتآمر من أجل الثورة، ومع الإصرار على إرسال هذه الرسائل محلياً لفترة كافية، مع الوقت يقتنع بها الكثير من المصريين، نفس المصريين الذين يفتخرون بهذه الثورة ويحبونها، وبالتالي في العقل الباطن سيعتبرون الإخوان المسلمين أبطال، فيجروهم إلى الساحة السياسية أكثر بل ويأخذهم البعض بعين الاعتبار في انتخابات الرئاسة! ومع الوضع في الحسبان أن كل مؤسسة في العالم بها عملاء وخونة، فقد ينتهى الأمر بالإخوان المسلمين أنفسهم مقتنعين أنه من الصالح للأمة أن يغيروا رأيهم وسياساتهم السابقة، فبالفعل يشتكرون بشخصية من قياداتهم في انتخابات الرئاسة.

وكل ما سبق من أحداث ومخططات قد يستمر إلى النقطة التي يُدَمَّر فيها اقتصاد كل دول المنطقة بطريقة أو بأخرى، سواء بثورة أو غيرها. وعند هذه النقطة، يبدأ—بإشارات خضراء من المتآمرين—يتضح محلياً وعالمياً أن حركات "إسلامية" مثل حركة الإخوان المسلمين تتحكم سياسياً في المنطقة، وتحصل إسرائيل بمساعدة الإعلام الغربي أخيراً على السبب الذي يبحثون عنه منذ فترة لشن حرب تكنولوجية جبارة على كل من يحيطهم من الدول، نفس الدول التي تم تدميرها واستنفاذها اقتصادياً وإرباكها سياسياً وإضعافها عسكرياً عن طريق هذه الثورات،...ونعم، قد تكون هناك عيون جالوت، ولكن قبل أن تأخذ الدول العربية نَفَسَها من الثورات وتستعيد قوتها! الجميع يعلم اليوم أن اقتصاد الدول التي ثارت انهار، والخراب والدمار عم في كل أنحاء البلاد، والخسائر قد تقدر بالمليارات أو أكثر، والجميع يقول أن كله في سبيل "الحرية" يهون، وأننا سنستعيد قوتنا بعد أن نتخلص من النظام الفاسد الذي كان يسرق البلد ويبيع في مصر مثلاً الغاز الطبيعي لإسرائيل بأبخس الثمن فيخسر البلد المليارات، وكله كلام جميل، ولكن هل تظنون أن إسرائيل ستدع لكم مجال إعادة بناء الاقتصاد؟ كم سيأخذ منكم إعادة بناء مثل هذه الخسائر والمباني التي دمرت؟ ألن يأخذ شيء مثل هذا عدة أعوام، خاصة وأن اقتصادنا وصناعاتنا وقدراتنا لم تكن تتنافس حتى مع الصين من الأصل؟ ونعيد فنسأل: هل تظنون أن إسرائيل ستترك لنا الفرصة؟ خاصة وأن السودان بدأت ثورتها بالفعل، وسوريا واليمن في خلال أيام؟ ليت الأمر بالبساطة التي يتخيلها الجميع. اقتربت الساعة وانشق القمر، أيها العرب والمسلمون.

النصر ليس بالسرعة التي يتصورها الشاب المسلم البسيط. المهدي لم يظهر بعد، والجيش الآتي من ناحية خراسان لم يظهر بعد...والأهم، الأمة لم تستحق لا المهدي ولا النصر بعد...الأمة ثارت من أجل الحرية والديمقراطية وفصل الدين عن الدولة والشرف والعزة والكرامة والوطن وهكذا، ولم تثور من أجل الله أو إعلاء كلمته أو إقامة دينه. والأهم، الأمة لم تغير من نفسها وتعالج الفساد الموجود في معظم القلوب بعد. وبالتالي، الأمة لم تستحق أي عزة حقيقية بعد.

"نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله"—عمر بن الخطاب. بسم الله الرحمن الرحيم: "إن اللـه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ۗ وإذا أراد اللـه بقوم سوءا فلا مرد له ۚ وما لهم من دونه من وال". 11 الرعد. صدق الله العظيم.

الخميس، يناير 27

هذه الثورة ليست ثورتنا

مقالة كتبتها لجريدة إلكترونية مصرية جديدة، مصر في الخارج Egypt Abroad، بعنوان: هذه الثورة ليست ثورتنا.

الجمعة، يناير 14

هل فصل الدين عن الدولة هو الحل؟

تعليقاً على ما يقوله بعض الإخوة العرب عن أن فصل الدين عن الدولة هو الحل، أو العَلَمانية هي الحل، كتبت: مع احترامي لإخواني، ولكن قبل أن نقرر أن فصل الدين عن الدولة جيد، أياً كانت الأسباب—مثل المشايخ الفاسدين أو ما شابه، فيجب أن نثبت أولاً أن فصل الدين عن الدولة له نتائج إيجابية. وبناءً عليه، فهل عندنا أي دلائل أو شواهد أن فصل الدين عن الدولة، أو الفكر المعروف بالعَلَمانية، بفتح العين واللام لأنه فكر لا يمت للعِلْم بصلة وإنما للعالَم الذي نعيش فيه ومنه العَلَم، هل عندنا دلائل أن العَلَمانية أسلوب ناجح في إدارة وقيادة الدول؟

هل تسرع البعض وأشار إلى الدول الغربية؟ هل نجحت الديمقراطية في أمريكا مثلاً؟ إذا انخدع البعض بقوة أمريكا اليوم، فما يجهله الأغلبية العظمى من الناس هو أن أمريكا عليها ديون تقدر بأربعة عشر تريليون دولار، وتزيد ديونها بحوالي مليون دولار كل نصف دقيقة! واقتصادها وعملتها الدولار في طريقهما إلى الانهيار التام، والانتخابات هناك لا تزور كتزوير الانتخابات في بلادنا العربية، ولكن يتم إعانتها بأساليب علمية في الإعلام أو البروباجانْدا التي تغسل أمخاخ الشعب وتجعلهم يختارون الرئيس الدمّية الذي يريده علية القوم من أصحاب البنوك والشركات العملاقة، وكل هذا مدون في أبحاث الغربيين الذي ينقبون عن الفساد في بلادهم. أما عن البلاد الاسكندنافية مثلاً، فتكفي لنا الإحصائيات بنسب الطلاق والاكتئاب النفسي والانتحار، وتكفي شواهد التفكك العائلي وعدم احترام الآباء والأمهات، والشذوذ الجنسي الذي يؤدي إلى التفكك الأسري أكثر وقلة الإنجاب أكثر؛ والثقافة واللغة وهوية البلد نفسها تتآكل كل عام. كل هذا مبني على دراسات، ومن كان عنده الوقت والرغبة، فله أن يبحث ويتأكد بنفسه من كل هذا.

مما درسته، ومن حياتي في دول غربية، بما فيها أمريكا وإنجلترا وفنلندا (وهي بلدي الثانية التي ولدت فيها وهي بلد اسكندنافية)، أستطيع بثقة أن أؤكد لكم أن فصل الدين عن الدولة ليس الحل، بالذات لمعشر العرب. 

عمر بن الخطاب قالها منذ مئات السنين: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. إن ما أخرجنا، كعرب، من حياة الخيام والإبل كبدو وعبيد وقبائل إلى العالم الخارجي، لنحكم نصفه لأكثر من أربعة عشر قرن، وهي أطول فترة مسجلة في التاريخ لثقافة أو حضارة واحدة تعيش في رخاء ونجاح، ما أخرجنا من حالنا ذلك إلى أن نحكم نصف العالم بالعدل ونخرج من بيننا العلماء كان إيماننا بالله وطاعتنا له، فقط لا غير.

ابحث عن الحل في الديمقراطية أو الرأسمالية أو الشيوعية أو الباذنجانية كما تشاء. تعلم الطب والهندسة والكيمياء والذرة كما تشاء. بدون طاعة وعبادة لله، وهذا لا دخل له بمشايخ النظام الحاكم أو الفضائيات، فأنت لا شيء ولن تغير في بلدك شيء. أنت لا شيء بدون الله، وهذا هو قدرك كعربي. وليس المقصود ترك العِلْم الدنيوي لإقامة الشعائر الدينية، بل الموازنة، فإن العمل عبادة طالما لم يؤثر على الفرائض؛ ولكن عندما نقول أن العمل عبادة، فهذا معناه أن نيتك من العمل ومن طلب العلم الدنيوي يصبح عبادة إن كانت هذه هي نيتك وهذا هو ما تريد أن تفعله من عملك أو مذاكرتك: أن تعبد الله وتطيعه وتعلي راية دينه. عندما تعلم وتوقن بذلك، ويوقن بذلك عدد كافي من إخوانك العرب حولك، وقتها يأتي فرج الله.

والمقصود...الحل هو الرجوع إلى الله، التمسك بحبل الله، وطاعة الله وحده في كل خطوة ولحظة في حياتِك.

تحديث:

قرأت مؤخراً مقالة تدافع عن العَلَمانية، وتؤكد أن لا علاقة لها بالإلحاد، وأنه لا يجب معاداة هذا الفكر بل فهمه بعقلانية. أيضاً لمحت المقالة إلى أن من يعادي العَلَمانية غالباً ينتمون إلى الفكر الإسلامي الأصولي، وكأن الأصولية فكر يجب النفور منه والعَلَمانية فكر يجب فهمه وتبنيه.

أولا، دعوني أتخلص من نقطة الأصولية هذه. أنا لست أصولياً ولا سلفياً ولا أنتمي إلى أي فكر أو حزب ديني أو سياسي محدد، على الإطلاق، وسأحاول أن أحتفظ بهذه الحالة حتى آخر يوم في حياتي؛ هويتي هي التوحيد بالله وحده لا شريك له، والإيمان برسله كلهم، محمد وعيسي وموسى وإبراهيم عليهم صلوات الله وسلامه، ومنهجي هو منهج الوحدانية الإبراهيمية السمحة والتي تركها لنا واضحة رسول الله، محمد صلى الله عليه وسلم. يعني أنا مسلم بسيط، وأحاول أن أتحرى الوسطية والاعتدال والصراط المستقيم قدر المستطاع. وبعد أن أخرجت هويتي الفكرية إلى النور، أقول أن الأصولية كلمة أيضاً يساء فهمها كثيراً، تماماً كما ذكر كاتب المقالة عن إساءة فهم كلمة العَلَمانية. الأصولية من الأصول، وجذرها الأصل؛ والسؤال هنا هو: ما هو العيب في اتباع أصول اللغة؟ أو أصول الفقه؟ أو أصول الفيزياء؟ كتاب الفيزياء الذي كنت أدرسه في مدرستي باللغة الإنجليزية كان اسمه: Fundamentals of Physics، أي أصول الفيزياء. فما هو العيب في أن تتمسك بأصول أي علم في الحياة، سواء علم ديني أو دنيوي؟ هل أجرم الأصولي الفيزيائي الذي يتمسك بأصول الفيزياء؟ إن لم يكن، فلماذا تعيب على الأصولي الفقهي أو الأصولي الإسلامي؟ سبحان الله، إن كان أصولياً، فهو يتمسك بأصول دينه، وهذا لا عيب فيه، بل هذا هو التدين الصالح، لأنك إن تركت أصول دينك، فماذا تبقى من دينك كي تتمسك به؟ سفاسف الأمور وسطحية الفكر؟؟

وبناءً عليه، فإن قلنا أن الأصولي الإسلامي، الذي يريد أن يتمسك بأصول دينه، وبالتالي لا يعطي السياسة والتشريع إلى الإنسان، بل إلى خالق الإنسان، كما أمره الخالق في كتبه السماوية كلها، عندما يعادي الفكر العَلَماني الذي يريد أن يضع السياسة والتشريع في يد الإنسان وقوانينه الوضعية، فهو لا يخطئ ولا يجرم ولا يتطرف. أبداً، بل إنه يتمسك بأصول دينه وبهويته وبأوامر الله سبحانه وتعالى.

وتريد أن تأتي أنت فتقول أن الفكر الأصولي يعادي الفكر العَلَماني الذي تدافع عنه، وكأن هذه المعاداة تشدد أو تطرف فكري؟ أبداً والله، بل إنّك، إن كنت تساند العَلَمانية، ومن معك ممن يُجَمِّلُونها لعامة الناس، تريدون أن تُخْرِجُوا الله من دائرة التشريع ووضع القوانين، وتضعوا مكانه حفنة من الرجال ممن لا نعرف نواياهم ولا هويتهم الحقيقية ولا أجندتهم ولا إنتمائاتهم؛ ومن حَكَّمَ غير الله فلا يصح له أن يدعي الإيمان بالله، لإن الإيمان بالله يتم إثباته بالفعل، لا بالقول، وليس المقصود التكفير—حاش الله، بل المقصود أن كل إنسان حر في اختيار أسلوب حياته ودينه، لكم دينكم ولي دين، ولكن لا تدعي أنك تؤمن بشيء وفي نفس الوقت لا تريد اتباعه. وأنت حرّ طالما لم تضرّ. ولكنك إن أصبحت تدعو إلى "فصل الدين عن الدولة"، و"إبعاد الإسلام عن القانون والسياسة"، ففي حقيقة الأمر هذا التعبير ما هو إلا وصف غير مباشر، كان نتيجة عملية تجميل لفظي للفعل الحقيقي الذي كان يجب أن يوصف، والفعل الحقيقي هو: أخذ أجزاء من الإسلام وترك أجزائه الكثيرة الأخرى، وهذا ما لا يرضي الله تعالى لأن الله أمرنا في كتابه الكريم أن ندخل في السِلْمِ—أي الإسلام—كافة، يعني كلّه. فلا يجوز ولا يصح أن نأخذ من الإسلام بعض الشعائر كالصلاة والصوم والحج، فيصبح الإسلام للمسجد وبعض حجرات المنزل فقط، ولا نأخذ من الإسلام تشريعاته وقوانينه السياسية والاقتصادية في إدارة الدولة، وبالتالي نكون معرضين إلى منع حجاب المرأة في المؤسسات الأكاديمية والحكومية، وتحليل المعاملات الربوية في البنوك، بل وفي نهاية المطاف قد نحلل بيع المجلات الإباحية وتوفير المواخير وبيوت الدعارة التجارية في الشوارع بحجة تنشيط السياحة وأننا نبيع الخدمات للأجانب وليس للمسلمين! وكل هذا يودي بالدولة إلى هوية لا تمت بأي صلة إلى هوية الإسلام.

إن الإسلام طريقة حياة وحكم قانوني وبيع وشراء وتعاملات مدنية ومعاملات اقتصادية، ليس فقط شعائر تعبدية. وأي شخص يقول شيئاً غير هذا فهو إما شخص يعادي الدين والإسلام سواء جهراً أو سراً، أو هو شخص جاهل صدق الشخص السابق، ولا يصح للمسلم الغيور على دينه أن يصدق كلامهم أو يسكت عليه، حتى وإن تشدقوا بألفاظ مثل "الله جل في علاه" أو "الرسول عليه أزكى الصلاة والسلام" أو "ديننا الحنيف". وتذكر دائماً أن هناك من المنافقين ممن استطاعوا أن يضعوا الودّ في قلب الرسول نفسه—صلى الله عليه وسلم، حتى أنزل الله فيهم آيات تكشفهم على حقيقتهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى فيهم: "ومن النّاسِ من يُعْجبُكَ قَوْلُهُ في الحياةِ الدنيا ويُشْهِدُ اللـهَ على ما في قلبهِ وهو ألَدُّ الخِصَام" (204) سورة البقرة.

فاحذر أخي المسلم والمسلمة من تصديق أي شخص يدّعي أن العَلَمَانية أو فصل الدين عن الدولة هو فكر مسالم ولا يعمل ضد الإسلام. كما ذكرت، هؤلاء الأفراد إما كارهون للإسلام وإما غسلت عقولهم فتقبلوا هذا الفِكْر من الغرب، والذي في أساسه بدأ كنتيجة لجرائم الكنائس الرومانية—والتي كانت لا تمت بصلة لتعاليم عيسى عليه السلام—في عصر ظلمات أوروبا، العصر الذهبي للأمة الإسلامية، حيث كان رجال الدين الفسدة في أوروبا آنذاك يحرقون العلماء بحجة كُفرهم. العَلَمانية كانت الابن الغير شرعي لاغتصاب الكنائس الرومانية للعِلْم الدنيوي وعلمائه. وإن نفع معهم هذا الفكر اليوم في الغرب فهو لن ينفعنا نحن كمسلمين، لأن ديننا، كما ذكرت سابقاً، ليس فقط شعائر تعبدية مثل الصلاة والصيام والذهاب إلى المسجد مرة في الأسبوع. بل إن ديننا يفرض على الرجال المسلمين أن يصلوا في المسجد خمسة مرات في اليوم الواحد، ليس مرة واحدة في الأسبوع! والإسلام له تشريعاته التي تتعلق، ليس بحياة الفرد المسلم فقط، بل بالتعاملات الأساسية في المجتمع المسلم كله، تشريعات اقتصادية وسياسية واجتماعية.

وبناءً عليه، فإنّ التخلي عن تلك الأجزاء القانونية من الدين وإبعاد الدولة عن تلك الأجزاء معناه تخلي الدولة، بحكومتها ودستورها، عن الإسلام تماماً، لأن الله لم يفرض الصلاة والصوم على دولة، بل فرض الصلاة والصوم على الفرد وفرض على الدولة إقامة القوانين التي وضعها الله للمجتمع المسلم. فإن أصبحت الدولة عَلَمانية تماماً، ولم تطيع الله بتطبيق قوانينه، فأين تكون هويتها المسلمة إذن؟ ماذا تفعل الدولة وقتها حتى نسميها دولة مسلمة ونسمي البلد بلد مسلمة؟ ولماذا لا تكون الدولة مسلمة إذا كان أكثر من 90% من سكانها مسلمين وكان أغلب هؤلاء المسلمون يحبون دينهم؟

وإن قال قائل أننا نتجنب أن تكون هوية الحكومة مسلمة لأن هناك أقليات، لقلنا أن الإسلام يفرض قوانيناً تحفظ حقوق الأقليات وغير المسلمين، ولا تُفَرِّق أبداً بين مسيحي ومسلم أو حتى كافر ومسلم عندما يتعلق الأمر بحقوق مدنية كمواطن.

إذن لا يوجد أي حجة على الإطلاق لأن تتخلى الدولة عن الإسلام كلية بهذه الطريقة، فتصبح دولة عَلَمانية.

وحتى لا يظن البعض من قليلي العلم أني أدعو إلى تطبيق تشريع قطع يد السارق ورجم الزاني الثيب وهكذا، وهي الأمثلة التي يعشقها كل من يكره الدين فيذكرها كلما أراد أن يبرر فصل الدين عن الدولة، إني أؤكد أن هذا لم يكن منهج الله في تقديم شرائعه للمجتمع المسلم وتربية هذا المجتمع عليها، ولم يكن هذا منهج الرسول عليه الصلاة والسلام في تطبيق تلك الشرائع. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فداه نفسي، من بُعِث رحمة للعالمين، له قصة معروفة بأنه أخذ يرد امرأة مسلمة جاءت تعترف بالزنا وهي ثيب، تارة حتى تضع ولدها—وكانت حاملاً، وتارة كي ترضع رضيعها، إلى آخر الرواية؛ أي أنه—عليه الصلاة والسلام—كان رؤوفاً ورحيماً بالناس أيما رحمة. وبعيداً عن الفقه وتفسير الحديث، أسأل كل شخص منصف: بالله عليك، لو أن هذه المرأة لم ترجع مرة واثنين وثلاثة تعترف بخطيئتها للرسول، هل كان الرسول عليه الصلاة والسلام سيسلط عليها رجال شرطة أو مخابرات كي يحضروها ليتم عقابها؟ أم أنه كان يردها وهو يتركها تماماً لقرارها هي سواء بعد شهر أو عام؟ ثم هناك قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أوقف عقوبة قطع يد السارق مؤقتاً في وقت عانت فيه الأمة مما نسميه المجاعات. والشاهد من هذه الأمثلة وغيرها الكثير، ومن منهج الله في تقديم شرائعه للناس وتربيتهم عليها، ومن طريقة تطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه لهذه الشرائع، الشاهد هو أن الإسلام دين رحمة، يفرض على الدولة أولاً توفير الحياة الآدمية والعادلة لشعبها، توفير العدل والأمان والوظائف والتعليم والإعلام، وحماية الناس من كل ظلم وفساد، قبل أن تبدأ في تطبيق أي عقوبات رادعة وما شابه.

هذا هو ما أعرفه عن الإسلام وعن منهجه. وبناءً عليه أعرف أنه لا يوجد أي خوف من تطبيق الإسلام من قبل الدولة، لأنه لا إكراه في الدين والدين نفسه دين رحمة، وإن من يستخدم الأمثلة الفاسدة من متنطعين ومتشددين، كي يخوف بسطاء الناس من الدين، شخص جاهل بحقيقة هذا الدين، أو كاره للإسلام—سواء أكان عالماً بحقيقته أم جاهلاً بها. والسبب في كراهية معظم هؤلاء العلية من القوم للإسلام هو نفس سبب كراهية فرعون لرسالة موسى عليه الصلاة والسلام، ونفس سبب كراهية الرومان والأحبار الفسدة من اليهود لرسالة عيسى عليه الصلاة والسلام، ونفس سبب كراهية سادة قريش لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام؛ كل هؤلاء كرهوا رسالات التوحيد التي أتى بها الرسل لأنه كان واضحاً تماماً لهم من الرسالة أنها تجعل الناس أو الشعوب تطيع الله سبحانه وتعالى وحده بدلاً من طاعتهم هم، بجنودهم وحاشيتهم. رسالات التوحيد هذه تأخذ السلطة والحُكْم من شرذمة قليلة من علية القوم، والكثير منهم فسدة وجشعون، فتعطي الله وحده السلطة والحُكْم وتجعل القادة فقط راقبين على أمر الله، وهو ما لا تريده ولا تحبه هذه الشرذمة.

ولكل زمان ومكان شرذمة من علية القوم هؤلاء، سواء فراعنة مصر القديمة، أو الرومان، أو الأحبار الفسدة، أو سادة قريش، أو فراعنة مصر المعاصرة، أو فراعنة النظام العالمي الجديد، أو صهاينة روثتشايلد، أو الماسونيون، أو المتنوّرون؛ معظم هؤلاء يحبون المال حباً جماً، ومعظمهم متكبرون جبارون عنيدون. تآمر السابقون منهم ومكروا وكَذَبُوا وكَذَّبُوا وأضلوا، ويتآمر الحاضرون منهم فيمكرون ويَكْذِبُون ويُكَذِّبون ويُضِلُّون. وللأسف، هناك من الناس البسطاء، ومن المثقفين ممن طغت عليهم أهواؤهم وغلب عليهم حبهم للدنيا، ممن يسمع لهؤلاء الكاذبين المضللين، والكثير من كذبهم اليوم مزوّق ومنمّق، فيصدقونهم ويدعون دعوتهم، وهي ظاهرها الود وباطنها ألدّ الخصام والعداء لتوحيد الله والدين كله.

الاختصار هو أن تطبيق الإسلام بكلّيته يأخذ السلطة الحقيقية والحُكْم النهائي من الملوك والرؤساء والحكومات، فيعطيهما لله وحده. علية القوم يكرهون هذا، فيتآمرون ويخططون ويمكرون في كل مجال من مجالات الحياة، سواء العلوم البيولوجية أو العلوم الاجتماعية أو السياسية أو الرسائل الإعلامية أو المواد الترفيهية، كي يقنعون الشعوب بأن تطبيق دين الله في حياتنا بكلّيته هو شيء مخيف أو لا جدوى منه في العصر الحديث، ويقنعونهم تارة بالرأسمالية وتارة بالاشتراكية وتارة بالعَلَمَانية كمنهج أفضل في إدارة الدول ووضع القوانين. وعندما ينجحون في إقناع بعض الإعلاميين والمثقفين بهذه الأفكار، فإن مهمة توصيل هذه الأفكار للشعوب وإقناعهم بها تصبح وكأنها نجحت بالفعل. والهدف في أغلب الأحيان هو احتفاظهم بالقوة والسلطة والمال، وفي أحيان أخرى الهدف هو إشباع رغبات كُفْر صريح وعبادة ما دون الله تعالى، نتيجة لخلل أو مرض روحي أو نفسي في بعض هؤلاء الأفراد من علية القوم المتكبرين الجبارين العنيدين. نسأل الله أن يهدي بعضهم إلى التوحيد بالله على سنّة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى تُهدى على أيديهم ملايين البشر.


الخميس، يناير 13

التدين والأخلاق: الموازنة التي تتملص

وصلتني رسالة بريد إلكتروني اليوم، يبدو أن الناس تتناقلها كثيراً، بعنوان "علاء الأسواني في إحدى أهم مقالاته". والمقالة في الرسالة كانت بعنوان "الأخلاق بلا تدين أفضل من التدين بلا أخلاق". ولكني عندما بحثت عن المقالة على الإنترنت، وجدتها على موقع يبدو أنه مدونة الدكتور علاء الأسواني نفسه، وكانت بعنوان مختلف: "هل المصريون متدينون فعلاً؟".

وما لفت انتباهي في الرسالة التي وصلتني هو أن من شكّلها أو صمم الخط والألوان في محتواها يبدو أنه يقصد زرع فكرة محددة في عقل القارئ، وقد تكون أجزاء من هذه الفكرة واضحة في طريقة تشكيله لعنوان المقالة، واختياره للعنوان الذي تغير من العنوان الأصلي الذي يستخدمه الدكتور علاء في مدونته. فإن الكلمتين الأخيرتين في العنوان الذي استخدمه من شكل الرسالة الإلكترونية، "بلا أخلاق"، كان حجمهما أصغر بطريقة ملحوظة من بقية الجملة: "الأخلاق بلا تدين أفضل من التدين"، وكأن الشخص الذي شكل الرسالة الإلكترونية يريد أن يفصل بين الجزئين في العقل الباطن للقارئ، فيغير معنى المقالة من المعنى المخصوص الذي استخدمه الدكتور علاء إلى معنى ورسالة أخرى، وهي أن الأخلاق أفضل من الدين! والصورة التالية التي أخذتها كما هي من الرسالة الإلكترونية توضح ما أقصده بطريقة مرئية:

وبعد الانتهاء من هذه الملاحظة عن الرسالة التي يتناقلها الناس، أريد أن أضيف بعض التعليقات على المقالة نفسها. الدكتور علاء أديب يحترمه ويقدر فنه في الكتابة الكثير من الناس، ولكني كنت أفضل أن يستخدم كلمة غير كلمة "التدين" في مقالته، حتى لا يأخذها بعض الناس، بالذات من الجهال والعَلَمانيين، خارج سياقها، وحتى لا يستخدمها بعض الأفراد كما استخدمها الشخص الذي غير عنوان المقالة بل وغير حجم الكلمات وهو ينشرها على الإنترنت كما هو موضح أعلاه.

كنت أفضل أن يعالج الأستاذ علاء كلمة التدين نفسها قبل أن يشرع في استخدامها. أدرك أنه شَرَح ما يعنيه في المقالة، ولكني أتحدث عن معالجة محددة للكلمة نفسها، موضحاً أنه يجب أن يفهم الناس المقصود منها. فما هو معنى كلمة التدين؟ ما هو المقصود بالتدين؟ هل التدين مثلاً إقامة الشعائر الظاهرية لدين ما؟ هل هذا هو التدين؟ أم التدين هو التمسك بكل تعاليم الدين؟ 

إن كان التدين هو إقامة الشعائر الظاهرية فقط لأي دين، لكان يجب إثبات هذا بالأدلة والمنطق والأمثلة. أما إن كان التدين في حقيقته هو التمسك بكل تعاليم الدين، للم يصح من الأصل أن نقول أن الكاذب المنافق المرتشي البذيء السليط اللسان الغشاش الفاسد، الذي لا يغض بصره ولا يحترم حرمات الناس، ولكن يصلي ويصوم ويحج ويعتمر، هو شخص "متدين"! إن لم يكن التدين هو فقط إقامة الشعائر الظاهرية للدين، بل العمل بكل تعاليم الدين، للم يصح أو يجوز أن نقول على أي شخص أخلاقه ضد الأخلاق التي يدعو إليها الدين ولكنه يصلي أنه شخص متدين.

كان يجب أن تُعالج هذه الكلمة، وبعد معالجتها، كان يمكن أن نرى أنه من الأولى استخدام مصطلح أو تعبير آخر، مثل "إن الأخلاق بلا شعائر دينية ظاهرية أفضل من إقامة الشعائر الظاهرية وإضاعة الأخلاق أو الخلق الحسن". ووقتها لو انتقد شخص هذا الكلام، لكان يمكن أن نستشهد بالأحاديث الصحيحة التالية: "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق"؛ "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن جادل أحدهم بأهمية الصلاة دوناً عن أي شعائر أخرى، لوافقنا على أهمية عدم إضاعة الصلاة أو تفويت وقتها على أي شيء آخر للمسلم، ولكن يجب أن يعي المسلم أن الصلاة قد لا تكون مقبولة من الأصل إن لم يتحلى الشخص بالخلق الذي يجعله فعلاً في صلاة بدلاً من أن يكون ببساطة ينقر رأسه على الأرض ويحرك جسده فقط، ولقلنا أيضاً أن بعد الصلاة لا يوجد أي عبادة أخرى أهم من الخلق الحسن والتخلق بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام، والذي بعث رحمة للعالمين، بشهادة الحديث الصحيح نفسه أن حُسْن الخلق أثقل شيء في ميزاننا يوم القيامة.

على الجانب الآخر، إن أراد شخص ما، بالذات العَلَماني أو الجاهل، أن يستخدم هذا الكلام كي يبرر ترك الشعائر الدينية تماماً والاكتفاء بالأخلاق الحسنة، لقلنا أن هذا لا يصح ولن ينفع المسلم يوم القيامة، على الأقل وبالذات عندما يتعلق الأمر بالصلاة على وقتها خمس مرات في اليوم للمسلم، بشهادة الحديث الصحيح: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله"؛ وهو نفس الحديث الذي يمكن أن نستشهد به على أهمية "صلاح" الصلاة، لأنها إن فسدت بسوء الخلق والطمع والجشع وتشرب القلب للذنوب والمعاصي، وكلها أشياء تجعل قلوبنا جافة عاصية لا تعي شيئاً من حقيقة ما نقرأه أو يُقرأ علينا من آيات وأدعية أثناء الصلاة أو خارجها، إن فسدت صلاتنا بتشرب قلوبنا للذنوب والقسوة وسوء الخلق لفسد سائر عملنا وخسرنا يوم القيامة.

فإن كان المرء مسلماً، كان عليه أن يعي جيداً أن هذا الدين، دين الإسلام، ليس متوافقاً ولا ملائماً للاستهبال أو الاستعباط أو الفَهْلوة أو أسلوب "مَشِّي حالك" أو "كلّه بينفع"، ولا ينفع فيه—في الإسلام—أسلوب الانتقاء وكأن المرء يختار ما يطيب له من قائمة طعام في كافيتيريا، وهذا مصطلح يستخدمه بعض الغربيون أنفسهم: cafeteria bible أو كافيتيريا الإنجيل، فما بالك بالإسلام؟ وخير شاهد هو ما ذكرناه: أول شيء يحاسب عليه المرء هو الصلاة، كشعيرة دينية، ولكنها في نفس الوقت شعيرة قد لا تُقبل أو تصح على الإطلاق إن لم يكن قلب المسلم سليم، والقلب السليم من الخلق السليم. وفي الحديث الصحيح: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب". يعني كله مرتبط ببعضه، ولا مفر من أن ندخل في الإسلام كافّة، بكليته كأسلوب للحياة. يعني صلاة على وقتها بجانب حسن الخلق، والاختيار ما بين الصلاة وشيء طارئ جداً يستلزم مشورة أهل العلم: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، وللمرء أن يستفتي قلبه إن لم يستطع أن يستشير أهل العلم، على أن يستشير أهل العلم على وجه الأهمية والأولوية والسرعة بعد الانتهاء من الشيء الطارئ حتى لا يتكرر الاختيار للأهم بجهل بأوامر الله وهو أعلم بالخير لنا وللعالمين.

في نهاية المقال، يوجد أيضاً رسالة استغربتها بعض الشيء، تُعطى للقارئ، وهي تتلخص في جملة "الديمقراطية هي الحل". وإني لا أتفق مع هذه الجملة، وفي نفس الوقت لا أقول أن الإسلام هو الحل مثلاً، على الأقل ليس قبل معالجة كلمة الإسلام نفسها في هذا السياق وشرحها شرحاً مفصلاً للناس، ومنهم كثير جاهلون ومستهبلون. لا أعتقد أن الحل هو الديمقراطية، وإلا لفلحت دولة مثل أمريكا، تتمتع بديمقراطية مثالية، أو على الأقل تدّعي هذا، والحقيقة هي أن البنك المركزي في الدولة، والذي يطبع نقود الدولة ويُقْرِض حكومتها بالفوائد، هو هيئة خاصة ملك لعائلات محددة، وليس هيئة حكومية! نعم، البنك المركزي في أغلب دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة، هو هيئة خاصة يملكها عائلات محددة. والانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة تعتمد على غسل مخ الشعب والاحتيال عليه بل والكذب عليه حتى يختار رئيساً محدداً. وطبق نفس هذا الكلام على تقريباً كل الدول الغربية الأخرى. فإن كانت الديمقراطية هي الحل، لفلحت تلك الدول، ولكن هذه الدول نجاحها نجاح ظاهري فقط، وحتى نجاحها الاقتصادي قائم على دماء الشعوب وظلم الأقليات وهوة تتسع كل عام بين الطبقة الغنية والطبقة المتوسطة، ناهيك عن الطبقة الفقيرة. 

الحل في اتباع أوامر الله كلها، بدءً بأنفسنا. فمثلاً، البلد القذرة حالها هكذا لأن كل شخص يقول: "وهُوَّه يعني، قطعة المهملات البسيطة هذه التي ألقيها أنا هي التي ستوسخ البلد؟!" عندما يقول هذه الجملة مليون شخص، فبالفعل البلد تتحول إلى مقلب قمامة. أما إن قال كل شخص: "أبدأ بنفسي فأفعل ما يأمرني به الله"، لوجدنا مليون مواطن مثلاً لا يلقي القمامة في الشوارع، بل ويفعل الكثير من الخير الآخر عملاً بالحديث الحسن: "إن الله تعالى طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود"، فنجد الكثير من النظافة والطيبة والكرم في بلادنا، وفي خلال أيام معدودة، ليس أعوام!

حقيقة، إن أردت أن أعالج "الحلّ" معالجة مختصرة وبسيطة أيما بساطة، لقلت أن هذا هو الحل: أن نطيع الله في كل أوامره ونواهيه، ونتبع النموذج الذي تركته لنا رسله سبحانه وتعالى، فنستأسى بهم. وكفى.

وفي النهاية، أذكر القارئ أن المقالة التي أعلق عليها هي مقالة هل المصريون متدينون فعلاً؟ بقلم الأديب الدكتور علاء الأسواني، ويتناقلها بعض الناس بعنوان "علاء الأسواني في إحدى أهم مقالاته" أو "الأخلاق بلا تدين أفضل من التدين بلا أخلاق"، ويحاول بعضهم باستخدام أساليب في التشكيل والألوان أن يزرع في العقل الباطن للقارئ بذرة للفكر العَلَماني بأن الأخلاق بلا تدين أفضل من التدين، وهو فكر فاسد أثبت فساده في مختلف أنحاء العالم، لأنه وإن أدى إلى عدالة اجتماعية ظاهرة لفترات محدودة في بعض الدول، إلا أنه يثبت فساده على المدى البعيد بعد أن تنكشف قدرة علية القوم والسياسيين والحكام على استخدام هذا الفكر في استعباد الشعوب بالضرائب والديون الربوية والخوف من فقدان بيوتهم وأراضيهم. وهذا لأن هؤلاء العلية من القوم لا يرون أنهم يؤذون الناس، بل إنهم يوفرون لهم الترفيه والرفاهية والألعاب والخدمات الحكومية الجيدة والعدالة الاجتماعية الظاهرية، وهي كلها أشياء لا تتعارض مع "الأخلاق" التي يدعو لها العَلَمانيون في شيء، ولكن في نفس الوقت إنهم يمصون دماء شعوبهم ويحتكرون التجارات والموارد ويتلاعبون في البورصة وغيرها من الأسواق كي يحصلون على الأرباح القصوى لأنفسهم كأفراد وعائلات محددة وقليلة، على حساب الشعب...وهذا لا يتعارض مع "الأخلاق" التي يدعون هم لها ويعلمونها لمن يصدقهم من العَلَمانيين، ولكنها تتعارض بالتأكيد مع تعاليم وأوامر الله للعباد.

فالحل ليس في الديمقراطية التي يمكن لأي حكومة بسهولة شديدة اليوم أن تتلاعب فيها، وليس بالعَلَمانية أو فصل الدين عن الدولة، وليس بالأخلاق وترك الدين، وإنما الحل هو طاعة واتباع أوامر الله كلها، سواء في الأخلاق أو في المعاملات أو في الاقتصاد أو في السياسة أو في إقامة الشعائر الدينية. ولا، ليس المقصود أن نبدأ بقطع يد السارق من أول يوم، فهذا لم يكن منهج الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا منهج تربية الله سبحانه وتعالى للمسلمين الأوائل من الصحابة. وإنما المقصود هو إقامة الأساسيات أولاً، اتباع كل أوامر الله التي تتعلق مباشرة بإعطاء الناس حقوقهم وضمان حرياتهم وسلامة ممتلكاتهم بالذات البيوت والأراضي، وتتعلق بحسن الخلق بين الناس وبعضهم، وحريتهم في إقامة شعائرهم بأمان، وتربية الناس على حسن النقاش والتخاطب وتوصيل الرسالة، ووضع شروط عادلة قبل إعطاء أي شخص منبر أو ميكروفون الخطابة في الناس، شروط تتعلق بالاعتدال والأدب والموضوعية واحترام المقدسات حتى وإن اختلف الرأي، وليس بفكر محدد، وإقامة نظام متكامل في أي أرض أو دولة يكون قائماً على أوامر الله كلها، ثم خطوة بخطوة، وبعد أن يتعود الناس على عادات جديدة قائمة على طاعة الله، نبدأ في التقدم والدخول في تفاصيل أخرى لأوامره، سواء تفاصيل سياسية أو قانونية تشريعية أو اقتصادية وهكذا. أسأل الله أن يرزقنا جميعاً الحكمة والبصيرة، وأن يهدينا إلى الحق ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

الأربعاء، يناير 12

هل مصر فعلاً صاحبة فضل علي البلاد العربية؟

منقول: بقلم إبراهيم عيسى

تلك الحقيقة التي تريد ألا تعرفها أبدًا 

أولا: هل مصر فعلاً صاحبة فضل علي البلاد العربية؟ 

هذا السؤال قد يبدو ساذجا ومستفزا، هل مصر فعلا صاحبة فضل علي البلاد العربية أو بالأحري علي الشعوب العربية؟ حيث يبدو أن هناك إجماعا عاما واسعا ومسلما به بين المصريين علي هذا الأمر باعتباره حقيقة لا تقبل النقاش وأن الشيء الوحيد المسموح به (وعلي استحياء هذه الأيام) هو لوم وتقريع خفيف لزوم العشم بألا نعاير العرب بذلك، أي أن حقيقة أننا أصحاب فضل مفروغ منها والجدل (الخافت والمستحي) هو حول شرعية المعايرة وليس علي ثبوت وإثبات تلك الحقيقة، الأمر الذي يستوجب فعلا مصارحة بيننا تستلزم أن نفتح عقولنا ونسأل أنفسنا عن أشياء باتت موضع البدهيات بينما هي في الأصل موضع شبهات أو بأكبر قدر ممكن من المجاملة مشتبهات! 

مبدئيا فإن شعبا يلوك في فمه كلاما من نوع: «ده إحنا فضلنا علي الكل، أو هؤلاء نسيوا فضل مصر، ده إحنا اللي عملناكم وإحنا اللي حررناكم»، وهذا اللغو المسكين يعبر عن استجداء المصريين للآخرين أكثر منه معايرة، وكأننا نقول لهم والنبي قولوا إننا كويسين، وحياتكم كلموني عن جمالي وروعتي، شيء ما في إلحاح المصريين علي طلب اعتراف الآخرين بفضل مصر يشبه تلك المرأة العجوز المسنة التي تريد ممن حولها أن يتذكروا كم كانت جميلة؟ وكم يطربها أن يتحدث الآخرون عن جمالها، بينما صورتها في المرآة حاليا كاشفة لتجاعيد تملأها قهرت جمالها السابق وتحيله الآن قبحا! 

المصريون الآن أشبه بأحفاد رجل أصيل الأصل وغني المال وعظيم الأخلاق وواسع الثروة مات فبدد أبناؤه وأحفاده قصوره ومصانعه ومزارعه وثروته وقعدوا كحيانين علي الرصيف لا يملكون ما يقولونه وما يفعلونه سوي الحديث عن مجد جدهم دون أن ينتبهوا أنه مات وأنهم ضيعوا ثروته ومرمغوا سمعته وحلاً! 

لاحظ أنني حتي هذه الفقرة أساير وأسير مع الذين يقولون إن لمصر فضلا وأناقش الطريقة لا الحقيقة، الطريقة التي تعبر عن ناس لا يعرفون الفضل والفضائل لكن يثرثرون عنه طول الوقت فصاحب الفضل إن كان فضلا وإن كان صاحبه يفقد قيمته وقيمه حين يتباهي به ويتنابز حوله ويرتكب حين يردد هذا اللغو، فعلا غير أخلاقي، فمن هو الإنسان المحترم الذي يفعل فعلا نبيلا شريفا ثم يعاير الناس به ثم أيضا يطلب مقابل هذا الفعل بل يريد أن يكون الناس أسري أو عبيدا لفضله وكأنه خسيس فعل شيئا قيما في حياته نادرا واستثنائيا وما صدق أنه فعله فأخذ يعاير الناس به ويطلب مقايضة أمامه حتي كره الناس فضله وكان يوم أسود بستين نيلة يوم ما قبلت تسلفني يا أخي!

بينما نقول عن الشخص الذي ينسي الفضل إنه ندل، فإننا نصف الشخص الذي يطلب مقابل فضله وكأنه ماسك ذلة بذات الصفة...الندالة.

المذهل هنا أن أجيال المصريين الحالية ومنذ أربعين عاما تحديدا هي أكثر أجيال تخلت وولت وخلعت وفرت واستندلت مع العرب ومع ذلك فهم -وليس أجدادهم وآباءهم -الذين يطالبون الآخرين بسداد قيمة الفضل (إن وجد)، وهم هنا يسيئون ويهينون ذكري أجدادهم كما يعرون مادية وانتهازية تفكيره! 

لكن دعنا من هذا كله رغم أهميته، وتعال لنسأل السؤال الجاد الناشف الجاف: هل نحن فعلا أصحاب فضل علي العرب؟ 

أولا مكرر: هل نحن فعلا أصحاب فضل علي العرب؟

في علم السياسة وعلاقاتها كلمة فضل كلمة غريبة ومهجورة ليس لها أي محل ولا مجال ولا مكان لها في العلاقات بين الشعوب وبين الدول، والحديث عن الفضل خساسة مضحكة ومثيرة للشفقة فلم نسمع يوما من الأمريكان أنهم أصحاب فضل علي أوروبا وبالتحديد علي ألمانيا مثلا حيث خرجت برلين مهزومة ومنسحقة ومفلسة من الحرب العالمية الثانية فتولت أمريكا في مشروعها الشهير مشروع مارشال إعادة بناء الاقتصاد الألماني عبر حجم هائل من المنح والقروض ساهم المشروع مع علم وعمل ووعي وعقل الألمان في نهضة هذا الشعب وتجديد هذه الدولة لتصبح واحدة من الدول الثماني العظمي في الكرة الأرضية، فهل تطاول أمريكي وقال يوما لمستشار (رئيس) ألمانيا أو للصحف الألمانية: تذكروا فضل أمريكا عليكم يا عرر يا جرابيع يا نازيين؟

لن أطيل عليكم في سرد تجارب دولية كبري في مساندة الشعوب الصديقة والجارة والتي تربطها مصالح مشتركة عميقة ومهمة وأهداف واحدة وثقافة تكاد تكون موحدة، لكن المحصلة أنه لا أحد في العالم يقول هذا الكلام الفارغ بتاع الفضل وكلام الناس العاجزة الخايبة.

ثم في مجال الأخلاق السياسية والسياسة الأخلاقية كلام مثل هذا معيب وجارح للطرفين، فالذي يقول إنه صاحب فضل كأنما هو تاجر البندقية شيلوك اليهودي الذي يريد أن يقتطع لحم الناس المدينين له كي يوفوا بسداد ديونهم كما أنه أمر يثير عدوانية الطرف الذي نال الفضل (لاحظ مازلت ماشي معاك في أننا أصحاب فضل وهذا غير صحيح بالمرة وتماما) فأنت عندما تعاير شخصا وتضغط عليه فأنت في الحقيقة تبتزه ابتزازا رخيصا كي يكون تابعا أو خادما أو مكسورا أمامك وهو ما ينقلب إلي عكس ما تطلبه وضد ما ترجوه فللصبر حدود وللطاقة احتمال محدد!

لكننا فعلا لسنا أصحاب فضل علي العرب.

أعرف أنك لن تستطيع معي صبرا لكنك لو صبرت لاستطعت! 

ثانيا : إذا كان لأحد فضل علي العرب فهي ليست مصر بل جمال عبدالناصر! 

نعم الجملة شديدة الوضوح، إذا كان لأحد فضل علي العرب فهي ليست مصر بل جمال عبدالناصر، ما نتحدث عنه باعتباره عطاء مصريا عظيما وبلاحدود للعرب وللدول العربية أمر يخص مصر جمال عبدالناصر ولا دخل بمليم فيه لمصر أنور السادات وطبعا مصر حسني مبارك، وإلا قل لي وحياة أبيك ماذا قدمت مصر للعرب منذ تولي الرئيس مبارك حكم مصر؟ 

ما فضل مصر علي العرب؟ 

ما فضل مصر علي ليبيا مثلا؟ حتي يتذكر الشعب الليبي فضل مصر فتنهال دموعهم وتنسال أنهارا من فيض الفضل المصري؟ ربما تكون العلاقات التجارية التي مارستها مصر مبارك مع ليبيا خلال الحصار الدولي عليها موضع تذكير وفخر من حفنة تعرف بذلك في دوائر السياسة الحاكمة، لكن الحقيقة هذه العلاقات أفادت مصر أكثر من ليبيا ثم إن ليبيا كانت تقيم ذات العلاقات سرية وتحتية مع شركات ودول أخري في تبادل فوائد مشتركة فهو أمر لا يخص مصر مبارك بميزة ولا يقدم لمصر فضلا.

طيب ما فضل مصر علي الشعب السوداني؟ ممكن تحكي لي شوية عما فعلناه للسودان مثلا، ولا أي حاجة، حكومة وشعبا، بل نسينا السودان ونتغافل عن مشاكله ولا نتعامل مع همومه ولا حتي نستفيد من خيراته وفرص استثماراته؟ 

حد فيكم فاكر أي فضل لمصر علي السودان منذ استقلال السودان، بلاش منذ استقلاله، بل منذ 28عاما هي حكم الرئيس مبارك، ألا تتذكرون معي أننا كنا مقاطعينه أصلا بعد انقلاب البشير ومنذ محاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا وكانت هناك فجوة كبيرة وجفوة أكبر، وقبلها كانت خناقات للدجي مع حسن الترابي (وكذا المهدي وحزب الأمة أيضا) وكنا ننتصر لجعفر النميري ديكتاتور السودان حتي تخلصت منه ثورة سودانية شعبية، هل فعلا عملنا أي شيء كي يدين لنا سوداني واحد بإيقاف مذبحة دارفور، أو منع انفصال الجنوب (ربما ساهمنا بتكريس انفصاله!) هل رحبنا باللاجئين السودانيين كما يجب علينا مع اللاجئين ومع السودانيين؟ هل نشطنا تجارة واستثمارا مع السودان كما فعلت الصين وتكاد تكون المستثمر رقم واحد في السودان؟ هل انتهينا إلي حل محترم يصون حقوق البلدين في خلافنا حول شلاتين وحلايب (ألم تسمع أن حكومة الخرطوم تعاملت مع حلايب باعتبارها دائرة انتخابية سودانية!)

حد يقول لي أي حاجة في فضلنا علي العراق؟ 

وماذا فعلنا للجزائر ومع الجزائريين منذ أربعين عاما؟

وما فضل حضرة أي واحد فينا علي تونس مثلا وقد كنا نخاصم الحبيب بورقيبة منذ أيام عبدالناصر ثم لا نتذكر عن علاقاتنا مع تونس سوي مباريات كرة القدم ذات الخيبة! وأن الفرق التونسية كانت تمثل حتي حين عقدة للفرق المصرية!

أما المغرب فمش عايز أسمع ولا كلمة عنا معها فقد انتهي وجودنا فيها بعد رحيل عبدالحليم حافظ وحفلاته وأغنياته للملك محمد الخامس! 

بينما موريتانيا أنا أتحدي أي مصري يقول لي اسم رئيسها الحالي؟ أو عدد سكانها؟ أو اسم جورنال واحد فيها؟ بل أظن أن معظم المصريين لا يعرفون أن موريتانيا تتحدث اللغة العربية!

ندخل بقي علي المشرق العربي.

كلموني شوية عن فضلنا علي لبنان...الحقيقة لبنان ذات فضل متبادل يخص نانسي عجرم وهيفاء وهبي وإليسا وأفلامنا السينمائية التي صورناها في بيروت بعد النكسة وكان القلع والخلع فيها فوق الركب، ثم تفرجت مصر علي الحرب الأهلية في لبنان خمسة عشر عاما ولا حيلة لنا إلا جملة ارفعوا أيديكم عن لبنان بينما لم تكن لنا فيها يد، وحتي الآن فإن حكومتنا تتعامل مع نصف لبنان باعتباره خصما لها (حزب الله وحركة أمل وتيار ميشيل عون وقلبنا مؤخرا علي وليد جنبلاط فلبنان بالنسبة لحكمنا الرشيد هي سعد الحريري وسمير جعجع!).

أما فضلنا علي سوريا فبلا حدود طبعا فيكفي أن مالناش دعوة بيها منذ 1973 تقريباً، ورغم محاولات فنانين مصريين أنصاف موهوبين وأنصاف مثقفين طرد ممثليها من حياتنا المصرية، إذا بنجوم سوريا يسطعون في مصر.

وهذه فرصة لطيفة جدا للكلام الفارغ الآخر الخاص بموضوع أن مصر تفتح ذراعيها للفنانين العرب وكأن هذه منة أو منحة، لكن الحقيقة أن مصر بلا فنانين عرب لا تملك أن تقول عن نفسها ولا كلمة من عينة هوليوود الشرق والذي منه، ثم هوليوود الأصل يا بتوع الأصول هي التي تفتح ذراعيها لكل فنان ولأي فنان من أي مكان في العالم وهذا شرط التميز وأس النجاح.

ثم إذا كان فتح مصر ذراعيها للفنانين العرب فضلا فأرجو أن يكون واضحا لدي كل أعضاء نقابة المهن التمثيلية الذين يبدو أنهم في حاجة ماسة إلي دورات تثقيفية في التاريخ فالذي أدخل المسرح إلي مصر يا بهوات يا بتوع الفن هم السوريون والشوام، هم الذين علمونا يعني إيه مسرح وهم الذين بنوا المسرح المصري وخلقوه علي شكله المعاصر من عدم، ثم الشوام والفنانون العرب يا نجوم مقصورة استاد المريخ في الخرطوم هم الذين أسسوا فن السينما في مصر وأنتجوا وأخرجوا ومثلوا أفلامنا الأولي الرائدة واقرأوا تاريخكم الفني لتعرفوا وتفهموا فضل العرب والشوام علي كل فنان مصري! 

وبالمرة بقي طالما جئت إلي الذي يوجع فإن الصحافة المصرية هي صحافة صنعها شوام العرب من سوريين ولبنانيين وهم رواد فن الصحافة المصرية الأوائل بل هم مؤسسوها وأصحابها من أول الأهرام والمصور والهلال والمقطم ودار المعارف، حتي روزاليوسف، إلخ إلخ! 

ثم ما فضل مصر علي السعودية؟ وعلي الخليج العربي؟ (لم يأت دور فلسطين حتي الآن فصبرا جميلا والله المستعان).

آه، هنا ستسمع كلاما حقيقيًا عن دور المدرسين المصريين والأطباء والمهندسين وغيرهم الذين ساهموا في تعمير وإعمار وتعليم وتطبيب أهل السعودية والخليج. هذا صحيح لكنه ليس فضلا. هذا عمل ولا أقول واجباً.

بذمتك ودينك هل سافر مئات الآلاف من المدرسين والأطباء للسعودية والخليج حبا في أهل هذه البلاد أو رغبة في خدمة الإنسانية أو كرما أو عشقا لسواد عيون المواطن العربي في الخليج (أو في ليبيا والجزائر حيث سافر المصريون ليعملوا هناك)؟

يا أخي عيب، لايزال السفر لهذه الدول حلما لدي كل شاب مصري كي يكون نفسه ويعمل قرشين ويتزوج أو يبني بيتا، ومحدش يقولي إحنا اللي علمناهم! 

فالحقيقة أنهم يتعلمون الآن في أوروبا وأمريكا ولم نسمع عن أن أوروبا وأمريكا تعايرهم. ثم إذا كنا علمناهم فأنا، وعلي مسئوليتي الشخصية، أزعم أن نصف بيوت أقاليم مصر، إن لم يكن أكثر من نصفها كثيرا، تم بناؤه بفلوس مصريين يعملون في الخليج والسعودية. يعني بنوا بيوتنا وصرفوا علي أهالينا مقابل ما تعلموه أو اتعالجوا بيه؛ كان عملا ولم يكن فضلا ولا حتي رسالة! وكان حلم أي مدرس فيكي يا مصر أن يأتي اسمه في كشوف الإعارة للدول العربية. هل بسبب أنه سيذهب لرسالة العلم ونشر الثقافة ورفع راية التنوير؟ أبداً، ولكن بسبب أنه سيقدر علي بناء البيت أو تزويج البنات وتجهيزهن أو توفير مبلغ للزمن أو غير ذلك من مقتضيات ضرورات الحياة.

طبعاً لم أذكر اليمن حتي الآن متسائلا عن فضلنا عليها، خصوصا إنه كل شوية يفكرك واحد من إياهم إننا حاربنا لأجل اليمن، بينما نحن حاربنا كذلك لأجل الكويت، وهذا ما يقودنا مرة أخري إلي فضل جمال عبدالناصر.

فالمؤكد أن العمل العربي الوحيد المشترك الذي فعلته مصر لأجل شعب عربي منذ 28 عاما كان مشاركة قواتها في حرب تحرير الكويت عام 1991، لكن دعني أذكرك أن هذه المشاركة كانت تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية! ثم كان إسقاط ديون مصر الخارجية تاليا لهذه المشاركة (لا أقول ثمنا وقد تقول، ولا أقول مقابلاً وقد تقول، وإذا قلت أنت ذلك لن أجادلك).

لعلنا في السياق نفسه نتذكر أن مصر أمدت العراق بسلاح في حرب صدام مع إيران وبموافقة ورعاية أمريكية ثم بمقابل مالي ضخم وليس حبا في العروبة (ربما كرها في إيران)، وساعدنا زعيما عربيا مجنونا ومستبدا هو صدام حسين علي تبديد ثروة شعبه وقتل الملايين من أبناء وطنه في حرب بلا طائل وبلا هدف إلا خدمة الأمريكان والصهاينة! 

الحقيقة أنه من 28 سبتمبر 1970، ليلة وفاة جمال عبدالناصر، فإن الشعب المصري ليس له أن يفتح عينه أمام أي شعب عربي ليقول له إنني منحتك أو أعطيتك أو تفضلت عليك خلال أربعين عاما. ومع ذلك فإن مصر جمال عبدالناصر لم تكن هي أيضا صاحبة فضل علي العرب! 

ثالثا: ومع ذلك فإن مصر جمال عبدالناصر لم تكن هي أيضا صاحبة فضل علي العرب! 

جمال عبدالناصر كان زعيما مؤمنا بالعروبة وحالما بالوحدة بين الدول (الشعوب) العربية، هذا صحيح، لكنه ساند ودعم حركات التحرر العربية ضد الاحتلال، والثوار العرب ضد الحكومات التابعة للغرب، إدراكا منه حقيقيا وعميقا وبعيد النظر للمصلحة المصرية التي هي مع المصلحة العربية في موضع التوأم الملتصق (لم تكن ظاهرة التوائم الملتصقة قد انتشرت كما تنتشر الآن). مصر كي تتقدم وتتطور وتكبر وتصبح قوة إقليمية قادرة علي بناء ذاتها ومد نفوذها وتلبية احتياجات شعبها لابد أن تملك محيطا حليفا لها ومؤمنا بمبادئها ينسق معها ويخطط معها وينفذ معها. علي سبيل المثال، كي يقوم جمال عبدالناصر بتأمين احتياجاتنا المصيرية من مياه النيل والحفاظ علي اتفاقية وقعها مع دول حوض النيل، وهي تحت الانتداب أو الاحتلال، فلابد أن تكون هذه الشعوب التي تملك مفاتيح ماء النيل صديقة لمصر وحليفة لها. من هنا يمد لها يد العون ويزود ثوارها بالسلاح والمال كي يتحرروا ويتمكنوا من قيادة بلادهم. وهذا ما كان في كل الدول الأفريقية التي صار بطلها جمال عبدالناصر، حيث مصر موجودة بالقوة المادية وبدعم السلاح والمعلومات وبالأزهر الشريف وشيوخ الدين وبالمدارس والجامعات وبالتأييد لهذه الشعوب في المحافل الدولية سواء الأمم المتحدة أو حركة عدم الانحياز أو غيرهما، لتصبح مصر ساعتها الحليفة والصديقة، بل الأخت الكبيرة التي ضحت وساعدت ودعمت وتحصل بالمقابل وبدون أي تردد وبكل حب ونبل علي ما تريده من هذه الشعوب والحكومات. ويكفي يا سادة للمفارقة فقط أن جميع الدول الأفريقية صوتت لصالح مرشحنا المصري فاروق حسني علي منصب مدير عام اليونسكو، بينما الرئيس مبارك لم يشارك في مؤتمر الوحدة الأفريقية منذ 15 عاما تقريبا! كما أن أجهزة إعلام مصر كانت تشير طوال الوقت إلي خوفها من أن تتم رشوة الدول الأفريقية للتصويت ضد مصر! وهكذا جهل واضح وغياب مطلق وخلعان كامل يجعلنا بلا قيمة وبلا دور في أفريقيا الآن رغم احتفاظنا بآثار قديمة في قلوب الأفارقة، آثار عهد وقيمة جمال عبدالناصر. انظر الحصيلة: جمال عبدالناصر الذي قطع رجل إسرائيل من أفريقيا بمواقفه وبطولة مصر مع حركات التحرر في أفريقيا صنع أمانا رائعا لمصر من أي اختراق إسرائيلي لمياه النيل أو للدول الأفريقية، ثم إذا بإسرائيل خلال أربعين عاما من حكم الرئيسين السادات ومبارك ترتع في أفريقيا بل ووصلت حتي سدود علي نيلك!

بنفس المنهج كان عبد الناصر يساند الجزائر وثورتها وشعبها لأن مصر عبد الناصر كانت تنتصر للشرف وللحرية ولكرامة الشعوب في مواجهة العدوان والاحتلال، ولأن مصر عبد الناصر كانت في حاجة لأن يكون العرب في حاجتها ومحيطها، ولأن وجود فرنسا محتلة للمغرب العربي معناه أن استقلال مصر وأي دولة عربية منقوص ومهدد، وأنه لا يمكن لاستعمار مجاور لك ومحيط بك أن يسمح لك بالتقدم الاقتصادي أو الاستقلال السياسي أو الصعود التنموي. مصر عبد الناصر كانت تساند وتدعم لأجل نفسها قبل الآخرين ومن أجل مستقبل أبنائها ومواطنيها قبل أي أحد آخر. كذلك فعل عبد الناصر في اليمن (بدون ما تسقط عنه ديون مصر الخارجية بل زادت)، وكذلك كان السودان في قلب اهتمامات جمال عبد الناصر، بل في قمة وعيه وخططه. ويكفي أن شعب الخرطوم وأبناءه حملوا سيارة جمال عبد الناصر من فوق الأرض حبا يفوق الوصف واعترافا يفوق الحب بمكانة مصر حين زار الخرطوم في مؤتمر قمة عربي بعد نكسة يونيو المريرة والرهيبة!

الأمر إذن لم يكن مجرد مبادئ عبد الناصر المؤمنة بالحرية والوحدة بل كذلك كانت خطة عبد الناصر لتحويل مصر قوة إقليمية ودولية مهمة. وقد كانت كذلك فعلا حتي أن عشرات الخطط وضعها جهازا المخابرات الأمريكية والبريطانية لاغتيال عبد الناصر (ظني أن إحدي هذه الخطط أفلحت وقتلوا الرجل في 28 سبتمبر 1970 فعلا)، ثم كانت نكسة يونيو لتكسير عظام عبد الناصر وإنهاء مشروع مصر الرائدة لبداية مشروع مصر التابعة!

هنا نتوقف عند فضل مصر علي فلسطين لأكاد أقسم لك بالله أن مصر لا فضل لها علي فلسطين، بل إن مصر ضيعت فلسطين ولو كنت فلسطينيا لركعت لله وسجدت أدعوه أن تحل مصر عن فلسطين كي تتحل!

مصر حاربت إسرائيل في 1948 فانتهت الحرب بضياع نصف فلسطين وبالنكبة الكبري، حيث قامت دولة إسرائيل بينما كانت مصر الدولة الأكبر والجيش الأكبر وانهزم أمام عصابات صهيونية. ومن ثم فالمؤكد أن مصر هي المسئولة الأولي عن نكبة 48، وهي بالمناسبة شاركت في هذه الحرب لأن أهداف إسرائيل التوسعية والاستعمارية لا تغيب عن أي حمار، فما بالك بالعاقل النابه الذي يعرف أن إسرائيل تبحث عن دولتها الكبري من النيل للفرات. ومن ثم فالسكوت عنها وهي تحتل فلسطين كأنه رضوخ وموافقة لأن تحتل بعدها من نيلنا المصري السوداني إلي فراتنا العربي! 

أما حرب 67 فإن إسرائيل هي التي بدأت وشنت الحرب وقد أضعنا فيها نصف فلسطين حيث كانت القدس تحت ولاية الأردن، وغزة تحت ولاية مصر؛ فانهزمنا وضيعنا القدس وغزة وسيناء والجولان بالمرة.

أما حرب أكتوبر فقد كانت حربا من أجل سيناء وليست من أجل فلسطين وليس في خطتها التي وضعها عبد الناصر أو التي وضعها السادات كلمة واحدة عن فلسطين، فهي حرب مصرية تحاول استعادة أرض مصرية وشاركتنا في الحرب دول عربية كثيرة سواء بسلاح البترول (حد يكلمنا عن فضل البترول) أو بالمدرعات والدبابات كما فعلت الجزائر وكان منوطا بقواتها الدفاع عن القاهرة ضد محاولات احتلالها بعد الثغرة واحتلال السويس، أو بالأبطال الغر الميامين كما فعل الفدائيون الفلسطينيون.

ومن يومها فض اشتباك أول وفض اشتباك ثان ولا فلسطين ولا غيره، حتي إننا تحولنا في عصر الرئيس مبارك إلي دولة تقف علي الحياد كما يقول هو نفسه بين إسرائيل والفلسطينيين (لا يقول فلسطين بل الفلسطينيين!). وصارت مصر الدولة الوسيطة والسمسارة السياسية للصفقات بين طرفي النزاع والصراع، وتتباهي بأنها موضع ثقة الطرفين. ثم لاتكف مصر عن لعب دور السنترال في أي أزمة تحيط بالشعب الفلسطيني، حيث تتصل طوال الوقت بوزراء ورؤساء دول أجنبية ترجو منهم وقف إطلاق النار المفرط وتدين بالمرة اللجوء إلي العنف. ثم نغلق معبر رفح حتي في لحظات العدوان الإسرائيلي علي غزة، ويملك كثير من المصريين الجسارة أن يقولوا إن هذا عدل وحق! ثم نسمع عن مخاوف من أن يأتي الفلسطينيون إلي سيناء يا خويا ويقعدوا فيها وهيه ناقصة. بينما يقاتل ويناضل اللاجئون الفلسطينيون كي يعودوا إلي أرضهم، يخشي عوام منا وغوغاء من بيننا أن يأتينا فلسطينيون من غزة إلي سيناء، وكأن نخوة المصريين جفت. وكأن ما نسمعه ونراه من تدين المصريين مقصور علي النقاب واللحية والسبحة وتكفير الأقباط وحرق البهائيين. أما الانتصار للحق ونصرة المظلوم وإغاثة اللاجئ والاعتصام بحبل الله فكلام لا يعرفه المصريون ولا عايزين يعرفوه!

رابعا: هل مصر فوق الجميع فعلا؟ 

آه، جينا للي يزعل أكتر.

هل مصر فوق الجميع؟ 

السؤال الواجب هنا هو: أي جميع؟ من هم الجميع الذين مصر تقف أو تجلس فوقهم؟ 

هل جميع المصريين؟ أم جميع البشر؟ أم جميع الدول؟ 

الغريب أن دولتين فقط من بين كل دول العالم رفعتا هذا الشعار: الأولي هي ألمانيا النازية، وشعارها ألمانيا فوق الجميع، ألمانيا أدولف هتلر العنصرية العدوانية وكان هذا بشكل رسمي ولفترة مؤقتة (سوداء علي العالم كله)؛ والثانية التي هي مصر، بشكل غير رسمي وفي عهد الرئيس مبارك، حيث تتجرأ بعض قيادات الحزب الوطني وببغاوات الإعلام ودببة الفضائيات ويكررون شعار مصر فوق الجميع، دون وعي بنازيته وعنصريته وربما دون وعي بمعناه ومغزاه أصلا؟ 

هذا الشعار عنصري، رفعته دولة في فترة عنصرية آمنت فيه فئة مهووسة في مرحلة متطرفة وفي أجواء ديكتاتورية بأن الألمان جنس مختلف ومتميز عن العالم كله، وأن الجنس الألماني نبيل متفوق علي غيره من الأجناس والتي هي أجناس أدني أو قذرة تستحق إفناءها أو قتلها والتخلص منها. أي المقصود والمفهوم من ألمانيا فوق الجميع أنها أعلي وأهم من الشعوب الأخري وأكثر رقيا وتفوقا بحكم الجينات والهرمونات، وأن الألمان يستحقون وفق هذا الإيمان أن يحكموا ويتحكموا في العالم وأن تكون الأجناس الأخري مجرد عبيد وأرقاء وأقنانا عند الجنس الألماني اللي فوق بينما الجميع تحت!

من إذن أدخل هذا الشعار المجنون إلي بلدنا، وجعل حمقي أحيانا، ومخلصين جهلة أحيانا أخري، وسياسيين متحمسين حينا يرددون هذا الهوس الخرف دون فهم ودون تفكير؟ 

ثم ماذا يعني هذا الشعار الأخرق؟ 

هل يعني أن مصر فوق بقية الدول؟ النبي تتلهي!

فمصر التي تحتل المركز الأخير بين دول العالم في سوق كفاءة العمل، والتي تقبع في المركز 111 بين دول العالم من حيث النزاهة والشفافية، والتي لا تزرع قمحها وتستورد رغيف عيشها، والتي لا تشكل أي صناعة فيها أي أهمية في العالم، والتي لا تمثل أي تجارة لديها أي أهمية في العالم، والتي لا تظهر في قائمة الدول العشرين الأكثر تصديرا في العالم ولا قائمة المائة، والتي لا تضم جامعة واحدة ضمن أهم خمسمائة جامعة في العالم، والتي والذي والذين، هل يمكن أن يصدق أي مهفوف أنها فوق الجميع!

غالبا يتم استخدام هذا الشعار في مواجهة الدول العربية، وهو ما يعود بنا إلي أصل الموضوع وهو هذا الإحساس الزائف عند الشعب المصري بأنه جنس مخصوص غير العرب كلهم، وأنه متفوق عليهم، وأنه أعظم منهم، وأنهم ولا حاجة أمام المصريين. وإذا لم يكن هذا الكلام عنصريا فهو ألعن، فسيصبح كلام ناس عيّانة، يستحسن ذهابها فورا لطبيب نفسي، فهذا مرض شهير معروف بالبارانويا وهو جنون العظمة مقرونة بجنون الاضطهاد. وهذا عين حالتنا السياسية (والشعبية) الراهنة؛ حيث نشعر أننا أعظم ناس علي وجه الأرض، ثم أن العالم كله يتآمر علينا ويتحالف ضدنا ولا نسأل أنفسنا ليه.

ليه بيتأمروا علينا، هل نشكل أي تهديد لأي دولة في العالم؟ 

هل ننافس أي دولة أو شعب في التفوق العلمي والاختراعات الهائلة أو الصعود للفضاء أو امتلاك الرءوس النووية؟ 

هل نهدد الصين في قدرتها علي التصدير ونشكل خطرا علي أمريكا في امتلاكها الفيتو؟ هل يرتجف منا نتنياهو وقادة تل أبيب أم يصفوننا بالأصدقاء والحلفاء؟ 

لماذا تحقد علينا الشعوب العربية؟ 

هل تحقد علينا لأننا نتمتع بأقوي صحة بدنية في المنطقة فلا عندنا فيروس سي ولا فشل كلوي وكبدي ولا ينتشر فينا السرطان وأمراض السكر والضغط؟ أو لأننا نشكل أكبر عدد مرضي بالاكتئاب في الوطن العربي مما يستدعي حقد الشعوب العربية علينا لأننا مفرطو الحساسية؟ 

هل يحقدون علينا لأننا اكتفينا ذاتيا في الزراعة والصناعة مثلا؟ 

هل يحقدون علينا لأننا صرنا ننافس كوريا الجنوبية في التصنيع وهونج كونج في التجارة والهند في الكمبيوتر وتركيا في الديمقراطية؟ 

هل يحقدون علينا لأن رئيسنا عندما يزور دولة عربية يخرج ملايين لتحيته والهتاف باسمه ورفع سيارته فوق الأكتاف؟ 

كلها أسئلة، أليس كذلك؟ فهل تملك أنت إجابات عنها؟ 

أم أنك ستكتفي بأن مصر فوق الجميع؟

أما إذا كان مقصودا بأن مصر فوق الجميع أي أن لها الأولوية الأولي في أي حسابات أو أي قرارات تصدر عن حكومتنا، فهذا كلام بدهي ينطبق علي مصر كما ينطبق علي أي دولة في الوجود الإنساني، فلا توجد دولة تتخذ موقفا أو قرارا في غير مصلحتها ووفق أولوياتها وإلا تبقي دولة يحكمها مجانين أو عملاء! 

أما إذا كان مقصودا أن مصر أهم من مواطنيها، فالحقيقة أن لا دولة محترمة تتعامل بأنها أهم من مواطنيها، فالوطن هو مواطنوه. وقيمة وكرامة وكبرياء الوطن من كرامة وكبرياء مواطنيه. وإن حق كل مواطن أن يكون رقم «واحد» في أي قرارات خاصة بالدولة ومن الدولة؛ ومع ذلك فإن مصر بلد الكوسة والمحسوبية وحيث يحصل أقل من عشرين في المائة من مواطنيها علي أكثر من ثمانين في المائة من الناتج القومي لها. بلد أنت مش عارف أنا مين، وتوريث الحكم والمناصب للأبناء والأصهار، وتكويش خمسين عائلة علي ثروة وحكم البلد. دولة هذا حالها لا يمكن أن تخدع نفسها إلي حد أن تتصور أنها فوق الجميع، فالجميع من السيد الرئيس حتي أصغر مسئول في الحزب أو الحكم فوق مصر! 

خامسا: طبعا من السهل جدا اتهام هذه السطور وكاتبها 

سهل حيث يلجأ البعض حين سماع كلام لا يحبه إلي كراهية من يقوله لا مناقشة ما قاله، ومن ثم طبيعي جدا أن تخرج اتهامات لكاتب هذه السطور بأنه:

-لايحب مصر.

-أنه متشائم ونظارته سوداء.

-أنه مأجور وعميل.

-أنه يعارض الرئيس لهذا يريد أن يحط من شأن البلد في عهد السيد الرئيس.

أما عن الاتهام الأول فلا أنت ولا اللي خلفوا حضرتك يملك أن يتهمني أنني لا أحب بلدي ولا أنا مطالب أن أثبت لجنابك أنني أحبها.

أما ردا علي الاتهام الثاني فأعترف أن نظري ناقص سبعة العين الشمال، وناقص خمسة العين اليمين، وعندي استجماتيزم وحصلت علي إعفاء من الخدمة العسكرية، بسبب ضعف نظري، ومع ذلك فإن نظارتي بيضاء ولا أحب ارتداء نظارات شمس ملونة أو سوداء طبعا (وإن كنت أحب نادية لطفي وهي ترتديها في فيلم النظارة السوداء). ثم إنني لست متشائما ولست متفائلا ولا أجد أي ضرورة للتشاؤم والتفاؤل في السياسة بقدر ضرورة الإرادة والعزيمة.

أما الاتهام الثالث فالمأجور والعميل أسهل تهمة يلقيها العملاء والمأجورون علي الناس.

أما الاتهام الرابع فأنا أعارض الرئيس مبارك طبعا وقطعا، فأقول كلاما ويرد علينا غيرنا بكلام (ويردون بشتائم أحيانا كثيرة وبقضايا ومحاكم وأحكام بالسجن أحيانا أخري). وشوف أنت الكلام الذي تصدقه فصدقه دون تفتيش في نوايا أي من المعارض والمؤيد. ثم أعارض الرئيس مبارك لكنني لا أعارض مصر؛ ومصر ليست الرئيس مبارك رغم أن ما فعله فيها الرئيس مبارك ربما جعلها غير مصر التي نعرفها، وأخشي أن يورثها لدرجة أن تصبح مصر تلك التي لا تريد أن تعرفها! 

سادسا: هل مصر دولة صغيرة وعليها أن تعرف حجمها عشان تتكلم علي قدها؟ 

كل ما كتبته هنا وسأكتبه لاحقا يهدف إلي أن تسمع تلك الحقيقة التي لاتريد أن تعرفها أبدا، ثم لهدف أكبر هو أن نكبر فعلاً.

ماذا يعني كل هذا الكلام؟ 

معناه أن مصر دولة عظيمة مرهون تألق عظمتها بشعبها، برئيسها ورجالها. إما أن يكون الشعب المصري في مرحلة ما من تاريخه يليق بهذا البلد، فيرفع من مكانته ويعلي من مقامه وتقدم الأمم وقود منطقته العربية، وإما أن يكون الشعب في مرحلة ما (مثل التي نعيشها من 28 عاما) خامل الهمة، خانع الروح، مهدور الكبرياء، منكفيا منحنيا، معزولا ومنعزلا عن محيطه ومنطقته، فيتراجع البلد مكانة وشأناً، ويتحول إلي التباهي الممض والابتزاز العاطفي المريض، وتزوي قيمه ويصبح دوره هشيما تذروه الرياح!

من يبدأ مظاهرات الشغب والعنف وتدمير الممتلكات العامة؟

رجال شرطة الشغب والأمن الداخلي يلقوا القبض على "زميلهم" على أنه مواطن مشاغب
هل تريد أن تعرف كيف تبدأ أعمال الشغب في الشوارع؟ هل تحب أن تعرف لماذا تُكَسَّر السيارات والمحلات؟ أتريد أن تعرف من بدأ برشق الطوب على شيخ الأزهر والمفتي؟ ولماذا كل هذا؟


انظر على الصورة المرفقة جيداً. إنها من مظاهرات شغب منذ أعوام في كندا، واعتمد عليها الباحثون الغربيون—ضمن أدلة أخرى بعد ذلك—كي يتأكدوا في النهاية من أن الجهات الأمنية استخدمت عملاء وزملاء من بينهم هم أنفسهم كي يهيّجوا ويحرضوا بقية الجماهير على أعمال الشغب والعنف. هذا الأسلوب تتبعه كل حكومات العالم، وهو جزء بسيط من منهج "الإرهاب المنظم" الذي يتبعوه—على غرار الجريمة المنظمة.

ومع الشكر لأحد أصدقائي الذي اتهمني بأني أنشر كلاماً ظالماً عن الحكومات أو رجال الأمن الداخلي، وقال أن هذه أحد أساليب تدريب رجال الشرطة والمعروفة في كل مكان في العالم، بحيث ينقسمون إلى فريقين ويقومون بالتدريب على هذه الأشياء—وهو ما أدركه، لمن يشكك في موثوقية الصورة المرفقة أو يشكك في أنها حقيقية، الصورة من أحداث شغب كندية معروفة، فقط ابحث في جوجل باللغة الإنجليزية عن الأمر التالي وستجد الكثير من الصور والفيديوهات: toronto g20 riot fraud

وتذكر أن هذا مثال واحد فقط، يوجد الكثير والكثير من الأمثلة المشابهة، وستجد أن هؤلاء العملاء في أغلب الأمر ملثمين، يخفون وجوههم.

لماذا تقوم الحكومات بألاعيب مثل هذه على شعوبهم؟ من أجل تبرير قرارات سياسية يتخذونها بعد ذلك للتضييق على الشعوب أكثر وسلبهم حريات أكثر وأكثر. لولا أحداث مثل هذه المظاهرات العنيفة، وأحداث أسوأ، مثل الإرهاب—والذي يخططون له هم بأنفسهم مرة أخرى، لما استطاعت أي حكومة أن تضيق على شعبها أو تسلبه حريات. هذا يتم في كل حكومات العالم، بما فيها الحكومة الأمريكية. وأقرب مثال عربي هو قانون الطوارئ في مصر، فلولا أحداث الشغب وما شابهها من أزمات محلية، من ضمنها الإرهاب، لما استطاعت الحكومة المصرية تبرير قانون الطوارئ في مجلس الشعب أو أمام الرأي العام العالمي والحكومات الدولية.

ما الذي يمكنك أنت كمواطن أن تفعله لحماية نفسك وشعبك من ألاعيب ومؤامرات مثل هذه؟ حاول أن تبحث وتقرأ في هذه الأمور كي تفهمها جيداً وتستطيع إقناع غيرك من الناس بها باستخدام الأدلة والصور؛ وعلى أية حال، أقل ما يمكنك أن تفعله هو قص ولصق هذا الكلام مع الصورة ومشاركة الآخرين بها، والحديث مع الآخرين ممن لا يستخدمون فيسبوك عن الموضوع، حتى إذا حدثت مظاهرات، يكون الشعب داركاً وواعياً أن كل من يبدأ الشغب هو عميل للحكومة وليس واحداً من الشعب، فلا يشاركونه ما يفعل. بل إنك قد تساهم في كشف ألاعيب حكومتك باستخدام تليفونك المحمول في أخذ صور تظهر وجوه من يقوم بأعمال شغب عنيفة أو مدمرة، ثم عرضها على الإنترنت ولو بدون وضع اسمك، حتى يرى الناس جميعاً ويتعرفوا على هويات هؤلاء الأفراد، والتي في أغلب الأمر ببعض الأبحاث، ستنكشف على أنها هويات أشخاص لهم علاقة ما بالحكومة أو البلطجة.

وبناءً عليه، كن حذراً أشد الحذر من أي شخص ملثّم في أي مظاهرة، يُخفي وجهه وهويته، وانصح من حولك أن هؤلاء الأشخاص قد يكونون عملاء للحكومة وقد يكونون على استعداد للقيام بأعمل شغب وعنف في أي لحظة، فاكشفهم وافضحهم وحاول أن ترفع صوتك باتهامهم أنهم عملاء للحكومة. عادة هؤلاء الأشخاص الخونة يعانون بالفعل من الخوف لأنهم جواسيس، فأقل التهديد أو المواجهة قد تجعلهم يقلعون عن خططهم القذرة في خدمة الأنظمة الدكتاتورية التي تريد أن تعاقب شعوبها على جرائم لم يقوموا هم بها.

تماماً كما تعاقب الحكومة الأمريكية بعض الدول على جرائم لم يقوموا هم بها.

لا داعي للاستئذان، من فضلك ممر هذا الكلام، حبذا مع الصورة، للآخرين.

الجمعة، يناير 7

لماذا لا يمكن أن تكون الموسيقى حرام

للإخوة والأخوات ممن لا يجيدون الإنجليزية بطلاقة، اختصار مقالتي، وأنا لا أدعي العلم وإنما أدعي النقل والعقل، هي أن الموسيقى لا يمكن أن تكون حراماً، وإن كانت قد تكون مكروهة أو محل شبهات، بالذات في هذا العصر. وقبل أن أذكر الأسباب والدلائل التي أستخدمها، وكي لا يُقال أني أشجع الجاهل أن يُفتَتَن في دينه، قبل ذكر أي تفاصيل أقول: أشهد أن أي أغاني في كلامها أي شيء عن الشهوات والمغازلة هي أغاني حرام، وأن أي أغاني أو فيديوهات يصاحبها ظهور نساء بدون حجاب هي أيضاً حرام وتحرض على الفتن، وأشهد أن أغاني الحبّ إن شغلت المستمع عن الفرائض كالصلاة وإن جعلت الشخص يدمنها على حساب سماع القرآن وإن ذهبت بذهن المستمع إلى الشهوة فهي أيضاً حرام.

أما عن أسباب أن عدم منطقية تحريم الموسيقى، والتي أشرحها ببعض التفصيل باللغة الإنجليزية، فهي كالآتي: إننا حتى وإن أردنا أن نتجاهل القاعدة الفقهية التي تقول: "إنما يُنكر المتفق عليه، ولا يُنكر المختلف فيه"، وإن أردنا أيضاً أن نتجاهل فتوى عالم مثل الإمام الدكتور يوسف القرضاوي، ومفسّر العصر الإمام محمد متولي الشعراوي، وابن حزم وغيرهم، بإباحة عزف الآلات الموسيقية إن كانت في سبيل الدعوة وكان لا يشوب الكلام أو حالة العزف أي منكر متفق عليه...حتى وإن أردنا تجاهل كل هذا، فيمكننا التفكر وتعقل الأمر باستخدام شواهِد من القرآن نفسه.

الاختصار الشديد لهذه الشواهد هو أن الله حرم الخمر تحريم قاطع غير قابل لأي اختلاف أو جدل، ولكن الله أيضاً ذكر في القرآن أن فيه (وفي الميسر) فوائد للناس، ولكن ضرره أكبر من نفعه. ولا يختلف عاقلان في الدنيا أن للموسيقى فوائد، بل وأن العزف على آلة موسيقية لن يكون له الضرر الكامن مثل الضرر الكامن في شرب الخمر، وأن الفوائد للإسلام وأمته من موسيقى تصويرية مؤثرة في فيلم وثائقي إسلامي عن الرسول عليه الصلاة والسلام مثلاً أكثر بكثير من فوائد الخمر والميسر، فإن كانت الموسيقى فعلاً محرمة تحريم قاطع، لكانت الموسيقى هي الأولى بذكرها في القرآن، وتوضيح أن لها فوائد ولكن ضررها أكبر من نفعها فيجب علينا تجنبها. وهو ما لم يحدث.

ودليل آخر نستخدم فيه شيء مؤكد من ديننا ونأتي منه باستنتاج منطقي يُخْرِج الموسيقى من حكم الحرام هو الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "الحلال بيّن والحرام بيّن" إلى آخر الحديث. ومن الحديث نفهم أن الرسول (ص) أكّد لنا أن كل ما يقع تحت حكم "الحرام" فإن حرمانيته أو كونه حراماً هو شيء بيّن، شديد الوضوح، فلنا أن نسأل: هل يمكن أن يختلف عالمان مسلمان على حرمانية شديدة الوضوح؟ هذا لا يٌعْقَل، وبما أن حكم الموسيقى اختلف فيه علماء معاصرون وعلماء سابقون، وبما أن تفسير "لهو الحديث" بأنه الغناء ليس شديد الوضوح بل اخْتُلِفَ على هذا المعنى، وعلى أية حال الغناء نفسه بدون آلات حلال في رأي كل الأئمة أصلاً طالما لم يصاحبه منكر—بدليل طلع البدر علينا والأناشيد الإسلامية، وبما أن تفسير أو معنى كلمة "المعازف" ليس شديد الوضوح—ما إذا هي الآلات أم حالة العزف التي يصاحبها منكر، فيمكننا استنتاج أن حكم الموسيقى ليس شديد الوضوح، وبالتالي لا يمكن أن يقع تحت حكم الحرام، لأن الحرام بيّن، شديد الوضوح.

وهذا ليس معناه أن الموسيقى حلال، لا. بعد أن يطمئن المرء أن الموسيقى ليست حراماً، تفاصيل الحكم نتركها لمختلف العلماء...قد نشك أن الموسيقى حلال (يؤجر عليه)، والله أعلم إن تغير هذا إن كانت في سبيل الدعوة، وقد تكون مباحة أو مكروهة...الله أعلم، وهذا للعلماء كي يحددوه. كل ما أذكره في هذه المقالة هو أن الموسيقى لا يمكن أن تكون حراماً، ولا أدري ما حكمها بالضبط خارج هذا...مباحة أم مكروهة وهكذا، والله أعلم.

غفر الله لي أخطائي وهدانا جميعاً إلى الحق، بجوهره الثابت وتفاصيله التي تختلف.


Why music cannot be haram (forbidden)

I may be wrong, but you know why music cannot be haram or forbidden? Even if we are to ignore the jurisprudential rule (Qa'ida Fiqhiyya) that says that: What is agreed upon with consensus can be forbidden, and what is disagreed upon cannot be forbidden.
إنما يُنكر المتفق عليه، ولا يُنكر المختلف فيه

Of course it is easy to say that all those scholars who have deemed musical instruments permissible were fake scholars, but then if you are going to reduce the debate to such bigotry, then there is no debate with you to begin with.

So even if we are to ignore this jurisprudential rule, and even if we are to ignore the fatwa or ruling of an Imam and scholar like Imam Dr. Yusuf Al-Qaradawi, and Imam Muhammad Mutwally Al-Sha'arawy, permitting the use of musical instruments if for the sake of evangelism or da'awa, we can still use a bit of reason from the Quran itself.

Alcoholic beverages and wine are forbidden, right? Did God not say in the Quran, what means in English that wine (and gambling) has its benefits, but its harm is bigger than its benefits?

Good. Now would you not agree with me that music has its benefits? In fact, would you not agree with me that music has a lot more benefits than wine, and that the simple playing of a musical instrument will never have the same potential harm that wine has? I hope you can agree with that, because I believe that all sane people would.

Now, do you really think that God would so obviously, so clearly, in unequivocal terms state that wine has its benefits, but its harm is bigger than its benefits, and that wine is haram or forbidden, but...God AND the prophet do not state so obviously, so clearly, in unequivocal terms that music has its benefits, but its harm is bigger than its benefits, so it is forbidden?

Even if God and the prophet stated that music is forbidden, you can never ever prove that God or the prophet mentioned any benefits for music. Why would God mention benefits for wine, yet not mention any benefits for music, then deem them both forbidden?

That question alone makes me feel without a shadow of doubt that music, in its pure, respectable, artistic form, without any lewdness, seductive dancing, mixing of unrelated men & women, simply cannot be haram or forbidden. Yes, I agree that MTV, video clips, seductive dancing, and moaning men and women on microphones [are] forbidden in the jurisprudence of Islam, but the playing of musical instruments with a respectable message in the words--if any--cannot be haram or forbidden.

This does [not] mean that music must be "halal". Beyond establishing that music is "not haram", I leave things to scholars so they can rule it as "halal" (permissible & rewarded), or "makrooh" (disliked), or "mubah" (permissible), and so on.

You want to stay away from music because it is under suspicion or..اتقاءً للشبهات...then be my guest, and I will respect you a lot for your vigilance and strength of will in a world full of temptations. But please do not walk around sticking a label of "haram" on music. An educated scholar has every right to go on TV and say that his opinion and fatwa as a Muslim scholar is that music is haram or forbidden, but that scholar's students do [not] have the right to go around saying "music is haram". They can say "Imam so-and-so deems music haram", at least so they can appreciate difference of opinion and open their hearts up to a bit more love and tolerance to their brothers and sisters, which we all very, very desperately need today, especially brothers & sisters who attribute themselves to so-called Salafism. I respect Imam Al-Albany with all my heart, and pray that God gifts us with a scholar like him again; but unfortunately I see mostly pride, aggression, and a certain flare of better-than-thou attitude in the vast majority of brothers and sisters who attribute themselves to Salafism. A little more love and tolerance, and a wise choice of words when you state your opinions or what you "heard" can go a long way.

May God forgive me for any mistakes I made, and guide us all to truth, in its constant core and slightly changing details.

الثلاثاء، يناير 4

أول طوبة اتحدفت على شيخ الأزهر كانت من عميل مدفوع الأجر

يا مصريون، أرجوكم انشروا الحقائق وتكلموا عنها وإياكم إياكم من التشكيك في بعضكم البعض. أقسم لكم أن كل شيء يحدث مخطط له ويتم تسهيله وإشعاله من قبل جهات آثمة، ولا علاقة لها بالمسلم أو القبطي من البسطاء ممن لا يجلسون على كراسي الحكم والسياسة. يوجد مقالات وتغطية إعلامية كثيرة للأسف لا تحلل ما يحدث من منظور وجود عملاء مدفوعين الأجر بين الأقباط وبين المسلمين أيضاً، ولكن أقسم لكم أن هناك عملاء تواجدوا في كل حدث واعتمد مشغليهم على ما يُدْعَى بسلوك القطيع.

ومن يشك في هذا، فاسمع هذه القصة الحقيقية والموجود صور لها على الإنترنت تثبتها: هل تذكر أيام إهانة الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض الدول الغربية برسومات وما شابه؟ في هذه الأيام، خرجت مسيرات سلمية كثيرة احتجاجاً على انتهاك المقدسات الإسلامية بهذه الطريقة، وكان في هذه المسيرات مسلمين وغير مسلمين، ولكن ما يجهله الكثير هو أن بعض من كانوا في المسيرات، وفي الصفوف الأمامية في وجه كاميرات الصحافة والإعلام، كانوا لا يمتون بصلة للإسلام أو لأي ديانة أخرى، بل كانوا عملاء مدفوعي الأجر، والشاهد على ذلك أنهم كانوا مُلَثَّمين، يُخْفون وجوهَهم، ويحملون لافتات مكتوبة بنفس اليد وبنفس الأسلوب وبنفس الأدوات، مكتوب عليها أشياء مثل "اقطعوا رؤوس الكفار"، ولكن باللغة الإنجليزية بالتأكيد.

كان الهدف من هذا العرض المسرحي، ووجود هؤلاء العملاء المُرْتَزَقة بين المسلمين في المسيرات السلمية هو نقطتين: الأولى واضحة وهي تشويه صورة الإسلام والمسلمين ونعتهم بالعدوانية والتكفير والهمجية والبربرية، والثانية هي تشجيع المسلمين الموجودين في المسيرة على الغضب والاشتعال وترديد شعارات هجومية، اعتماداً على ما يعرف عند بعض علماء النفس بسلوك القطيع كما ذكرت، أو herd behavior.

هذا هو نفس الشيء الذي تم وسط الجماهير القبطية التي تذكر بعض المقالات أنهم حاولوا الاعتداء على شيخ الأزهر والمفتي ووزير التنمية...كان بينهم عملاء مدفوعي الأجر، خائنين للوطن ولكل ديانة، جاءوا بالطوب معهم من البداية، وبدءوا في الرشق بالطوب والسباب والإهانة، اعتماداً على سلوك القطيع، والعواطف المتأججة بالفعل، كي تقوم كلها ببقية ما بدءوه هم.

يا مصريون لا تشككوا في بعضكم البعض. لا يمكن أن يعتدي قبطي حقيقي من أصدقائنا وجيراننا على شيخ الأزهر، مستحيل! هذا لا يُعْقَل أصلاً! ومن الآخر كده، لو مش حيمتنع عن كده لإنه ميصحش ولإن شيخ الأزهر ملوش ذنب، حيمتنع عن كده خوفاً من حرب أهلية ومن ثأر الأغلبية المسلمة!! فكروا يا جدعان...والله اللي بيحصل ده كله مدفوع الأجر وعن طريق عملاء ما بيننا مستخبيين في الهوجة، وبيهوّلوا الناس البسطاء ويقَوِّمُوهم، وبعدين ينْسِلْتوا ويسيبوا الجماهير تقوم بالباقي. فوقوا يا مصريين، مسلمين وأقباط، واوعوا تِقْروا وتسمعوا حاجات وانتوا نايمين من غير ما تفكروا وتِعْقِلوا كويس اللي بيتقال والحقائق.

فكروا فكروا فكروا قبل ما تصدقوا وتنشروا وتتكلموا وتِقَوِّمُوها وتِشْعِلُوها أكتر ما هيه متشعلله. اسأل نفسك بدل المرة ألف، إيه تاني ممكن الحادثة دي تعنيه؟؟ إيه التفسير الآخر للأحداث دي؟ إيه هيه الأسباب التانية اللي ممكن تكون خلّت ده يحصل؟ اسأل اسأل اسأل، وإوعى تصدق كلام من غير ما تدقق فيه، وإلا بلدنا حتروح من إيدينا.

وثيقة من عهد الرسول تؤمّن النصارى

طبقاً لتعاليم الإسلام أعطى رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) عهد أمان للنصارى يؤمنهم فيه على أرواحهم وأموالهم وبيعهم وهو ما يعرف بالعهدة النبوية والمحفوظ صورة منه بمكتبة دير القديسة كاترين، بعد أن أخذ السلطان سليم الأول النسخة الأصلية عند فتحه لمصر 1517م وحملها إلى الأستانة وترك لرهبان الدير صورة معتمدة من هذا العهد مع ترجمتها للتركية. وهذه مقتطفات من العهد الذي أملاه الرسول (ص) بنفسه—وإن لم يكتبه بيده فقد كان لا يكتب—ووجهه إلى كافة الناس، وهو المقصود بكتابته للخطاب أو العهد.

 ( بسم الله الرحمن الرحيم )

"هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين، بشيراً ونذيراً ومؤتمناً على وديعة الله فى خلقه، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً. كتبه لأهل ملته ولجميع من ينتحل دين النصرانية من مشارق الأرض ومغاربها قريبها وبعيدها فصيحها وعجميها معروفها ومجهولها، كتاباً جعله لهم عهداً، فمن نكث العهد الذى فيه وخالفه إلى غيره وتعدى ما أمره، كان لعهد الله ناكثاً ولميثاقه ناقضاً وبدينه مستهزئاً وللّعنة مستوجباً، سلطاناً كان أو غيره من المسلمين المؤمنين: لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سايح من سياحته، ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم، ولا يدخل شئ من بناء كنايسهم فى بناء مسجد ولا فى منازل المسلمين. فمن فعل شئ من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله. ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزيةً ولا غرامة. وأنا أحفظ ذمتهم أين ما كانوا من بر أو بحر فى المشرق والمغرب والشمال والجنوب، وهم فى ذمتى وميثاقى وأمانى من كل مكروه. ولا يُجَادَلُوا إلاّ بالتى هى أحسن، ويُحْفَظ (ويُخْفَض) لهم جناح الرحمة، ويُكَفّ عنهم أذى المكروه حيث ما كانوا وحيث ما حلوا. ويُعَاوَنُوا على مرَمَّة بيعهم وصوامعهم ويكون ذلك معونة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد."

ولكل من يختار العصبية والقبلية فوق تعاليم الرسول عليه الصلاة والسلام، اقرأ مرة أخرى: "ولا يُجَادَلُوا إلاّ بالتى هى أحسن، ويُحْفَظ (ويُخْفَض) لهم جناح الرحمة، ويُكَفّ عنهم أذى المكروه حيث ما كانوا وحيث ما حلوا. ويُعَاوَنُوا على مرَمَّة بيعهم وصوامعهم ويكون ذلك معونة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد". ومِرَمَّة بكسر الميم الأولى أي متاع، أي كل ما يُنتفع به ويأتي عليه الفناء في الدنيا، أي يُعاون النصارى على متاع صوامعهم التي يتعبدون فيها فيكون ذلك معونة لهم على دينهم.

الرسول يقول في عهده "يُحْفَظ لهم جناح الرحمة"، ويقول "ويكون ذلك معونة لهم على دينهم"؛ اقرأ الكلمات إن كنت مسلماً وتفكر في معانيها جيداً حتى تعرف كيف أمرك الرسول عليه الصلاة والسلام أن تتعامل مع النصارى كلهم.

حرام وضع الصليب مع الهلال؟

ملخص المقالة:

هذه الصورة متاحة لمن أراد أن يستخدمها على صفحته الإعلامية، وما أعرفه هو أن هذا الرمز لا يجوز للمسلم وضعه أو إظهاره على جسده أو ملابسه، ولا يجوز أن يضعه على حوائط منزله كمسلم. أما الاستخدام الذي لم أجد دليلاً على تحريمه فهو على صفحات إعلامية وما شابه من أجل إظهار الترابط والتراحم والوحدة ما بين المسلمين والأقباط في أوقات الفتن الشديدة والخطيرة التي نعيشها.

تحديث: يمكن للقارئ أن يقرأ أيضاً فتوى من عالم دين في هذا الموضوع أجيب عنها في قسم اسألوا أهل الذكر في موقع أون إسلام.
  • أوافق على اتقاء الشبهات أو المشتبهات في الأوقات العادية، ولكننا في أوقات استثنائية عصيبة فهناك أولويات.
  • الحلال بيّن والحرام بيّن، فإن كان الشيء حكمه حرام لكان الحكم شديد الوضوح لا خلاف عليه.
  • الأحاديث التي أتت في شكل الصليب تشير إلى وضعه في البيوت أو الملابس أو الجسد، وهو ليس الاستخدام الإعلامي الموجود هنا.
  • إظهار شعار أو راية أو عَلَم دولة مثلاً لا يمكن أن يعني الاعتراف بسياسة أو فِكْر الدولة، ونفس الشيء ينطبق على الإظهار الإعلامي أو الأكاديمي للرموز الدينية. 
  • بعض المسيحيين في العالم لا يؤمنون بألوهية المسيح عليه السلام وينظرون إلى الصليب من منظورات أو وجهات نظر مختلفة، ويوجد نظريات مختلفة للباحثين في نشأة الصليب كرمز، فلا يصح أن يصرّ أحد على أي استنتاجات أو معاني محددة له. 
  • حادثة أو قضية الصلب نفسها ليست من أولويات الدعوة أو الجدال بالتي هي أحسن، بل هناك قضايا عقائدية أهم بكثير، ومرة أخرى لا يصح أن يصرّ أحد على ربط أي معنى محدد بالرمز. 
  • كمسلم، عندما تفكر في الصليب، حاول أن تطبق عليه ما تطبقه على الهلال من قواعد وشروط ومنظور رؤية، سيساعدك هذا على الحيادية والعدل والوسطية والعملية بدلاً من الاتباع الأعمى للعاطفة. 
  • التطبيع هو التَطَبُّع بطباع دولة أو أمة أخرى، وهذا لا يمت بصلة لإظهار رمز أمة مع رمز أمة أخرى في تعاون أو ترابط ما. 
  • كما ذكرنا، الاستخدام المسموح هو استخدام إعلامي وأكاديمي وما شابه.
  • إن هذا وقت تضامن وتآلف وتراحم وحب، وليس وقت جدل في أشياء تقع في قاع أولويات الأمة والبلد.
  • لقد أوصى الرسول عليه الصلاة والسلام بالمصريين، مسلمين وأقباط، خيراً وأشار إلي المصريين كلهم بقبط مصر. وهذا غير ميثاقه وعهده لنصارى الأرض كلهم في مغاربها ومشارقها، وهذه بعض كلمات ميثاقه: "ولا يُجَادَلُوا إلاّ بالتى هى أحسن، ويُحْفَظ (ويُخْفَض) لهم جناح الرحمة، ويُكَفّ عنهم أذى المكروه حيث ما كانوا وحيث ما حلوا. ويُعَاوَنُوا على مرمّة بيعهم وصوامعهم ويكون ذلك معونة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد." ومِرَمَّة بكسر الميم الأولى أي متاع، أي كل ما يُنتفع به ويأتي عليه الفناء في الدنيا، أي يُعاون النصارى على متاع صوامعهم التي يتعبدون فيها فيكون ذلك معونة لهم على دينهم. اقرأ الكلمات إن كنت مسلماً وتفكر في معانيها جيداً حتى تعرف كيف أمرك الرسول عليه الصلاة والسلام أن تتعامل مع النصارى كلهم، وبالأخص المصريين.
  • بسم الله الرحمن الرحيم: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ۖ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ۚ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} صدق الله العظيم. سورة المائدة: ٨٢.

المقالة وتفاصيلها:

أَتَفَهَّم الرأي القائل بأن إظهار رمز الصليب لا يجوز للمسلم في أي حال من الأحوال اتقاءً للشبهات، وناقشت بالفعل من قبل الأحاديث الشريفة التي يستخدمها كل من أراد أن يثبت صحة هذا الرأي، ولكني لا أوافق على هذا الرأي الآن، في هذه الفترة. وفي مقالي هذا أناقش هذه القضية من عدة جوانب، وأعلق على النقاط التي يستخدمها البعض في محاولات إثبات صحّة رأيهم.

في الظروف العادية قد أحبّ أن أؤيد فكرة إتقاء الشبهات، ولكني في نفس الوقت لا أوافق على الاتباع الأعمى لبعض التعاليم الشكلية والتي لا تمس العقيدة بطريقة مباشرة، ولهذا فقد أرحب بالاستثناءات في أوقات الشدة. والخليفة عمر بن الخطاب نفسه أوقف شريعة قطع اليدّ لفترة محدودة في وقت كانت الأمة تعاني فيه من المجاعة، فإني لا أرى ضرراً في أن أعبر عن تضامني مع جيراني الأقباط في الوطن بوضع رمزهم بجانب رمزنا، أو بمعنى أدق، بإظهار الهلال محتضناً ومحتوياً الصليب، خاصة في وقت مثل هذا. والأهم هو أني لم أجد ولم أسمع دليلاً شرعياً قاطعاً يمكن ربطه مباشرة بالرمز المُسْتخدم وبطريقة استخدامه وأماكن إظهاره.

الحلال بيّن والحرام بيّن. ومن الحِكَم التي قد نأخذها من هذه الكلمات من الحديث الصحيح هو أنّ الشيء إن كان حراماً، أي إن كان حكم الشيء بالتحديد وبالتصنيف الفقهي: "حرام"، فيبدو أنه في كلّ الأحوال سيكون هذا الحكم، ستكون حرمانيته، بيّنة...شديدة الوضوح. وبناءً عليه، قد نقول أنه إذا اختلف عالمان إو إمامان على شيء، لكان من المحال أن يكون حكم هذا الشيء حرام؛ قد يكون مكروهاً مثلاً، ولكن ليس حراماً، لأن الحرام يجب أن يكون شديد الوضوح في حرمانيته، فلا يختلف عليه عالمان أو—في بعض الأحيان—عاقلان.

وسأبدأ بأسهل نقطة في هذه القضية، وهي التعليق على كلام من يذكر الحديث الذي يشير فيه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى صليب من ذهب، على صدر الصحابي المدعو عَدِيّ، بكلمة "وثن"، والتعليق على ذكر الأحاديث الأخرى التي تدل على تحريم وضع الصليب بأي شكل من الأشكال في منزل المسلم. بخصوص الإشارة إلى الصليب على صدر عَدِيّ، فمن المعروف أن نحت التماثيل محرم في الإسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام لأن الصليب في هذه الحالة صُنِعَ من مادة ثمينة وهي الذهب، ونُحِتَ كنحت التماثيل، وعُلِّق على الصدر بطريقة تُعَظِّم وتُقَدِّس الصليب، وبناءً على كل هذا، فبالتأكيد لا يختلف مسلمان عاقلان وواعيان على تحريم هذا على المسلم. وإننا في أمسّ الحاجة اليوم كأمة، سواء العلماء منا أو العوام وطلاب العلم، أن نسأل أنفسنا: ما هو الهدف من هذا التشريع أو ذاك النهي؟ وحبذا لو نسأل أنفسنا أيضاً بعد كل درس وكل معلومة جديدة نسمعها: ما هي أهداف ديني وأهداف عقيدتي وأهداف رسالة الإسلام نفسها وماذا كانت أهداف رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وهل ما أصدقه الآن وما أقوله وما أدعو إليه وما أفعله يساعد بالفعل هذه الأهداف أم لا؟ وبناءً عليه، فإن من حكمة الحديث الذي أناقشه الآن هو ألا يتعلق قلب المسلم بأي شيء جماد ولا يقدس أو يعظم أي شيء مثل هذا، بل يتعلق قلبه فقط بالله تعالى، الذي لم يكن له كفواً أحد. أي ببساطة: لا تقديس لأي شيء جماد أو لأي صورة، لا للأوثان ولا لأي شيء يمكن أن يتحول إلى وثن مع مرور الأعوام والأجيال. وبناءً عليه، فهل يصح أن نستشهد بهذا الحديث أو نربطه بالتطبيق الذي يتلخص في "احتواء الهلال للصليب على صفحات إعلامية تدعو إلى الوحدة والترابط والتراحم"؟ بل هل يوجد علاقة من الأصل بين ذاك الحديث وهذا التطبيق؟ أسأل الله أن تكون الإجابة واضحة لكل مسلم عاقل ويتفكر كما أمره الله أن يتفكر.

أما بخصوص الأحاديث التي تشير إلى تحريم وضع الصليب أو إظهاره بأي شكل من الأشكال في منزل المسلم، وهذا واضح تماماً أنه يقع تحت بند التشبه بقوم غير مسلمين، وهو المعروف بأنه حرام، فمرة أخرى، إني لا أجد أي علاقة لهذا بالتطبيق الذي يتلخص في الرمز أعلاه، الهلال يحتضن الصليب في وقت الشدة. كيف أتشبه بالمسيحيين وأنا أُظْهِر الهلال كرمز أمتي، يحتوي ويحتضن الصليب كرمز أمتهم، على صفحة إعلامية للدعوة إلى الوحدة والترابط والتراحم؟

ويحضرني هنا ترديد بعض الإخوة لكلمة "التطبيع"، فيقولون لا للتطبيع مع المسيحية ولن نطبع ديننا مع أي دين آخر، ولهؤلاء أقول: هل تعرف أصلاً ما هو التطبيع؟ ماذا نعني بالتطبيع مع إسرائيل أو التطبيع مع دين آخر؟ التطبيع بمعنى التَطَبُّع بطباع دولة أو ثقافة أو ديانة أخرى، فتصبح طباعنا وطباعهم واحدة ونأخذ نحن منهم طباعهم. وبناءً عليه السؤال يفرض نفسه: عندما أظهرت رمز الهلال وهو يحتضن الصليب في وقت الشدة، هل أنت بذلك تطبعت بطباع أمة الصليب؟ هل أنت بهذا تخلّيت عن مبادئ دينك وتبنّيت مبادئ دين آخر؟ وأفضل سؤال في هذه النقطة، وهذا سيتطلب منك التفكير العميق: عندما وضعت الصليب بجانب الهلال، هل أنت بذلك اعترفت بصحة عقائد وأفكار أمة الصليب؟ حقاً؟ فكر.

فكر جيداً.

عندما وضعت راية أو عَلَم فنلندا بجانب عَلَم مصر في تعاون أكاديمي، أوعندما وضعت عَلَم الصين بجانب عَلَم مصر في تعاون تجاري، هل أنت بذلك اعترفت بصحة عقائد وشرائع وقوانين أمة فنلندا أو أمة الصين؟ وإن وجدت من الحكمة ما يحثك على الإجابة بلا، فما هو الفرق بين هذا ووضع الصليب بجانب الهلال؟ أنّ الصليب يرمز إلى ديانة أو أمة دينية والعَلَم يرمز إلى أمة سياسية؟ وإن صح هذا، فإن كان إظهار العَلَم الصيني بجانب عَلَم بلدِك ليس معناه الاعتراف بأيّ من أفكار الصينيين، فلماذا أصبح إظهار رمز المسيحيين بجانب رمز أمتك معناه الاعتراف بأي من أفكارهم؟ سبحان الله.

ومعنى الصليب نفسه يحتاج إلى تغطية سريعة جداً في نقاش كهذا. هناك نظريات مختلفة عن حقيقة نشأة الصليب كرمز للمسيحية، وإن بعض الباحثين الغربيين يربطون الصليب برمز مفتاح الحياة الفرعوني مثلاً، أي ببعض الجذور الفكرية التي تسبق حادثة الصلب التي يختلف عليها المسلمون بالدليل القرآني مع المسيحيين. إني هنا لست بصدد مساندة أي نظرية محددة في هذا الموضوع، ولكني فقط أوضح أن هناك أكثر من نظرية في حقيقة نشأة الصليب كرمز للمسيحية. إذن فإن الإصرار على أن الصليب يعني شيء أو فكرة محددة، أو بمعنى أدق، الإصرار بأن الصليب يعني أي شيء غير الرمز للأمة المسيحية، إنما هو سلوك من التعصب، وضرب من الجهل. خاصة لأن بعض المسيحيين أنفسهم في العصر الحالي لا يؤمنون بصحّة استخدام الصليب في التعبير عن المسيحية أو الرمز لها، لأنهم ينظرون للأمر من منظور أن الصليب هو الأداة التي عُذِّب بها نبيهم كما تقول معتقداتهم، فلا يطيب لهم أن يُقَبِّلوه أو يقدسوه؛ في حين أن بعض المسيحيين ممن يقدسون الصليب يبررون هذا التقديس بالاعتقاد في أن المسيح عُذِّب ومات على الصليب كي يضحي بنفسه ويطهرهم من الذنوب، فكان الصليب أداة تطهيرهم كما تقول معتقداتهم. إذن فنظرة المسيحيين أنفسهم للصليب تختلف باختلاف كنائسهم وفهمهم للنصوص التي يؤمنون بها؛ فإنهم أمة تختلف في بعض الفرعيات وطرق الفهم وتتفق في بعض الأساسيات، مثل أمم كثيرة أخرى. كما أن بعض المسيحيين في أنحاء العالم لا يؤمنون بألوهية المسيح ولا بعقيدة الثالوث. وكل هذه أشياء يجهلها الكثير من المسلمين، بما فيهم بعض الأئمة الذين لم يخرجوا من الوطن العربي ولم يتحدثوا مع مسيحيين من مختلف البلدان والكنائس.

إذن، بغض النظر عما يفهمه أي شخص من منظوره الفردي عن الصليب، سواء المسلم أو المسيحي، في نهاية الأمر الصليب مجرد رمز لقوم أو ديانة، مثله مثل عَلَم أو راية الدولة، ولا يمكن أن يرمز بالتحديد لأي فكرة (مثل الثالوث) أو جزء محدد من أي عقيدة (مثل صلب المسيح) لأن أي رمز قابل لمختلف التأويل، ولأن أفكار الأمة الواحدة أحياناً تختلف بشدة من مكان إلى مكان. وإن وافقنا على أن بعض المسيحيين في أنحاء العالم لا يؤمنون بالثالوث مثلاً، فكيف إذن يرمز هؤلاء المسيحيون لأنفسهم وكيف نرمز لهم نحن؟ هل تريدون تحريم استخدام الصليب كرمز لقوم؟ إذن فلماذا لا نحرم إظهار العلم السويدي في مؤتمر تعاون أكاديمي مثلاً أو في أي حال من الأحوال—وهو اقتراح مضحك؟

قال بعض الإخوة المسلمون: ولكن الصليب معناه الاعتراف بصلب المسيح، وهذا لا نؤمن به نحن. وجزء من الرد على ذلك غطيته بالفعل، وهو الجزء الذي يوضح أن إظهار رمز ما، بعيداً عن الجسم والملابس وحدود بيت المسلم، في إطار أكاديمي أو إعلامي مثلاً، لا يمكن أن يكون معناه الاعتراف بأفكار أمة هذا الرمز. أما الجزء الآخر من التعليق فهو أننا كمسلمين نؤمن بما جاء في القرآن عن حادثة الصلب، ولكن ما يفصل بيننا وبين المسيحية من عقائد أهم بكثير من قضية الصلب. بمعنى أدق، النقاش حول وحدانية الله ونبوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وألوهية المسيح أهم كثيراً من النقاش أو الاهتمام بما إذا صُلِب المسيح أم لا، فهذا ليس السبب الرئيسي الذي يخرج شخص من الملة مثلاً. وأنا أدرك أهمية الإيمان بكل ما جاء في القرآن بالتأكيد، ولكني أتحدث مثلاً عن شخص جاهل جداً...إن أردت أن تعرف ما إذا خرج من الملة أم لا، فبالتأكيد هناك أسئلة أهم بكثير من سؤال "هل صُلِب عيسى عليه السلام أم لا؟". إذن فإن ربط إظهار الصليب مع الهلال بالاعتراف بصلب المسيح هو مغالطة وتخمين، بل انعدام منطقية؛ فكما ذكرنا من قبل، ما هي علاقة إظهار راية ما، بالاعتراف بأفكار أمة الراية؟ وعلى الجانب الآخر، هذا الربط الغير منطقي هو أيضاً تشبث بقضايا ليست من أولويات الجدال—بالتي هي أحسن—مع أهل الكتاب وليس لها أي علاقة من الأصل بقضية وضع رمز الأمة المسيحية بجانب رمز الأمة الإسلامية. أي لماذا تركنا كل شيء وكل الأساسيات وتشبثنا بقضية الصلب؟! شيء عجيب.

وقال بعضهم: ولماذا نستخدم الصليب من الأصل؟ لماذا لا نضع ببساطة كلمة "أنا ضد الإرهاب" مثلاً؟ وهذا يكاد يكون التساؤل الوحيد العقلاني بعض الشيء وسط كل الجدل والاقتراحات والتساؤلات الأخرى. والتعليق على هذا لا يعتمد على علوم دينية، وإنما على علوم دنيوية مثل التسويق والدعاية والإعلان والإعلام وعلم الرموز وعلم النفس. والموضوع يطول شرحه، ولكن كمحاولة لتبسيط الرد أقول: الرموز لها تأثير أقوى بكثير من تأثير الكلمات، خاصة لأنها تتحدث مباشرة إلى قلب الناظر وتخاطب قلبه بلغته الشخصية وبمفهومه الشخصي. وهذا هو بالتحديد السبب الذي يجعل شخصاً ما ينظر إلى الصليب فيسمع رسائل في ذهنه تتعلق فقط بالثالوث أو بصلب المسيح، فيرفض الاقتراب من الرمز أو التعامل معه إن كان مسلماً؛ ولكن شخص آخر ينظر إلى الصليب فيسمع رسائل تتعلق بالأمة المسيحية نفسها، فلا يجد حرجاً في قلبه من الاقتراب من الرمز والتعامل معه بالبر والمعروف؛ وشخص ثالث ينظر إلى الصليب فيرى الأداة التي عذبت نبيه كما تقول معتقداته فيشعر بالألم، وآخر ينظر إلى الصليب فيرى الأداة التي طهرته وأنقذته كما تقول معتقداته فيشعر بالامتنان والحب، وهكذا. الرموز تتحدث إلى قلب كل مرء مباشرة، وبلغة هذا المرء الشخصية. وهذا هو ما يجعل تأثيرها قوياً وعاطفياً أحياناً. وبناءً عليه، فإنك عندما تضع رمزك كمسلم بجانب رمز جارك المسيحي، وفي نفس الوقت تتفهم وتتعامل بعقلانية واعتدال وعدل وحكمة مع رمزه، فإنك تؤثر في قلب جارك المسيحي كثيراً، لأن رمزه يعني له شيئاً مختلفاً تماماً عما يعنيه لك، وأنت تقول له إن هذا الرمز الذي يعني لك الكثير وتحبه وتتعلق به، هو بجانب رمزي...إني أتقبل وحدتنا بتقبل رمزك بجانب رمزي...انظر لرمزك الذي تحب، لقد وضعته بجانب رمزي...وهكذا، وكل هذه الرسائل لها من التأثير العاطفي الكثير، وتجعل جارك المسيحي يشعر بالأمان والامتنان لك. وإني لا أدعو هنا إلى إظهار رمز الصليب مع الهلال في كل الأوقات أو على ملابسنا أو في بيوتنا، وإنما في أوقات الشدة والحاجة الشديدة لكل تضامن وحب ورحمة، وأساساً على الصفحات الإعلامية وما شابه فقط. هذه بعض الأسباب التي تجعلني أنا شخصياً أستخدم الرمز أعلاه. وإني لا أقول أن هذا ضروري أو لازم، بل لكل مسلم حرية الاختيار في التعبير عن تضامنه، ولكني ذكرت بعض الأسباب التي جعلتني أنا شخصياً أقتنع بالحاجة إلى إظهار هذا الرمز في الوقت الحالي.

وتساءل آخرون: لماذا لا يستخدمون ونستخدم رمزاً آخر؟ لماذا الصليب بالتحديد؟ والإجابة لها عدة أوجه، ولكن أوْجُهها الرئيسية تاريخية. إن الرمز للأمة المسيحية بالصليب، على اختلاف أجناسهم وبلادهم ولغاتهم وكنائسهم وأفكارهم بل وعقائدهم، هو واقع تاريخي وواقع حالي. وكما ذكرت من قبل، يوجد عدة نظريات لنشأة الصليب كرمز، فلا يصح التشبث بنظرية محددة أو معنى أو مغزى محدد للصليب، خاصة إن لم تكن أنت مسيحي من الأصل وفي نفس الوقت دراستك ليست في تاريخ المسيحية مثلاً. فلماذا تصر على معنى أو مغزى محدد للصليب إن لم تكن مسيحياً من الأصل؟! 

ويوجد فكرة محددة قد تساعد المسلم على تفهم الرأي القائل بأن اقتراح مثل استخدام رمز آخر لن يجدي، بل وقد يكون غير عادل أو تنقصه الحكمة، وهذه الفكرة هي تطبيق نفس الاقتراح على رمز الهلال. إن الهلال نفسه كرمز للإسلام هو أمر مستحدث، فقد بدأ فقط منذ سبعة قرون مع الدولة التركية العثمانية، أي بعد سبعة قرون من الهجرة ووفاة الرسول عليه الصلاة والسلام. وكان الغرض الأساسي من استخدام الهلال هو التمييز المرئي للمؤسسات والمباني الإسلامية من المؤسسات والمباني المسيحية، لأنهم في أحيان كثيرة تشابهوا جداً في المعمار والتصميم، فكانت الحاجة لاستخدام رمز يميز هذا المبنى عن ذاك. وبعض الغربيون الحاقدون يدَّعون أن الهلال رمز لإله قمري غير الرب الذي يعبده المسيحيون واليهود. فتعال لنتساءل: طالما أننا كمسلمين لا نعبد القمر ولا نعبد الهلال، فلماذا لا نغير الهلال ونستخدم رمزاً آخر؟ الكعبة مثلاً. ووقتها تجد نفسك في وضع شائك، لأننا نسجد في اتجاه الكعبة كقبلتنا، فإن استخدمناها كرمز، لأعطينا الحاقدين سبباً أقوى لاتهامنا بأننا نعبد إلهاً غير الله، مثل الكعبة نفسها—وهو ما يقوله بالفعل بعض الجاهلون منهم. إذن، فإن من أراد أن يجد عيباً أو مصيبة في أي رمز فمن السهل له أن يجد ما يشاء بل ويتلكك أيضاً، ولأنّ الرموز قابلة للتأويل بطرق مختلفة، فعلينا جميعاً ألا نعطي الأمور أكبر من قدرها، وعلينا أن نفهم ونتعامل مع كل الرموز بوسطية وحيادية وعدل وحكمة. فكما أننا لا نحب أن يدّعي أحد أن الهلال معناه الاعتراف بالقمر كإله أو أنّ معناه أن المسلمين يعبدون القمر والعياذ بالله، فيجب ألا نُصِرّ نحن أن الصليب معناه الاعتراف بثالوث أو صلب، خاصة وأن ليس كل المسيحيين في العالم يؤمنون بألوهية عيسى عليه السلام كما ذكرت. وكما أننا لا نؤمن أن الهلال يرمز للتوحيد أو للفِكْر السلفي أو لهجرة الرسول (ص) أو ما شابه، بل يرمز للأمة الإسلامية أو الإسلام عامة، فيجب أيضاً ألا نظن أن الصليب يرمز للثالوث أو لصلب المسيح أو ما شابه، بل يرمز إلى المسيحية أو أمتها عامة.

ومرة أخرى، أؤكد على وأذكر القارئ بما ناقشناه من فكرة أن إظهار رمز أو راية ما لا يمكن أن يعني الاعتراف بفِكْر الأمة التي ترمز لها الراية، إلا إذا وضع الشخص هذا الرمز على جسده كوشم مثلاً أو ارتداه في ملابسه أو وضعه في منزله.

والشكل أعلاه يُظْهِر الهلال، الذي يرمز إلى أمة الإسلام، وهو يحتضن الصليب ويحتويه، وهو يرمز إلى أقباط مصر. وكان هذا هو واقع الأمة الإسلامية في تاريخها: يتنعم تحت رايتها بالأمن والأمان المسلم وغير المسلم معاً، فتحتضن كل ثقافة وفكر معتدل برحابة صدر طالما لم يتم أي اعتداء أو تآمر. والاحتضان والاحتواء ليس معناه الموافقة أو التأييد للفكر أو التطبيع مع ديانة أو التطبع بطباع أهلها، وإنما هو السلام والرحمة، وقد بعث رسولنا رحمة للعالمين، ليس فقط للمسلمين. هل يظن بعضكم يا إخوة أن احتضان أي فكر أو ثقافة مختلفة طالما لم يحدث معاداة أو تآمر شيء مبالغ فيه مثلاً أو لا يجوز؟ يا إخوة إن الرسول عليه الصلاة والسلام جاءه فتى يطلب منه أن يسمح له بالزنا...تخيل يا أخي، الزنا! شخص يقول لك أنه يريد أن يزني، ويريدك أن تحلّل له الزنا! ماذا ستفعل أنت مع هذا الشخص؟ وفعلاً، الناس الجالسون حول الرسول (ص) صاحت بهذا الفتى. أتظن أن الاحتضان بصدر رحب شيء حرام في موقف مثل هذا؟ انظر ماذا فعل الرسول عليه الصلاة والسلام: جعل الشاب يقترب منه، وبدأ يسأله برفق ولين ما إذا كان يحبّه—أي الزنا—لأمه، أو يحبه لأخته، إلى آخر الحديث. كان هذا هو لين ورفق الرسول عليه الصلاة والسلام مع من طلب منه السماح له بالزنا، حتى وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدر الفتى وقال: "اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه"، فلم يكن شيء أبغض إليه منه، أي حتى أن وقتها لم يكن شيء أبغض إلى ذاك الفتى من الزنا.

والرمز أعلاه أيضاً يظهر كلمة الحداد، وهي تشير إلى حُزْن ومواساة ومشاركة وجدانية لأحداث يناير 2011 في الإسكندرية. ويبدو أن كلمة حداد للأسف أيضاً يسيء فهمها الكثير من الناس، لضعف لغتهم العربية الفصحى مثلاً أو كالعادة لاعتمادهم على فهمهم الشخصي لمعظم الأشياء بدلاً من الاعتماد على الفهم الحيادي والعقلاني؛ أما الحداد فالمقصود منه هو الحزن والمواساة والمشاركة الوجدانية، وليس المقصود منه الصلاة على غير المسلم أو الترحّم عليه. كل أمة تصلي على موتاها وتترحم عليهم كما تشاء، وبالنسبة لأمة الإسلام فلا يجوز لها أن تصلي أو تترحّم على أموات من أمة أخرى، كما اتفق عليه العلماء؛ والحداد لا يعني الصلاة أو الترحّم، بل المواساة والتعزية والمشاركة الوجدانية والحزن على الأرواح التي ماتت بغير حق، أياً كانت ديانة من قُتِل، وقد مات مسلمون ومسيحيون في الانفجار الذي حدث بين الكنيسة والمسجد في الإسكندرية.

لقد أوصانا—كمسلمين—الرسول عليه الصلاة والسلام بالمصريين جميعاً خيراً، مسلمين وأقباط، وعندما أشار للمصريين في حديثه، أشار لهم بقبط مصر، وهي وإن كانت تعني المصريين في حديث الرسول، إلا أنها الكلمة المستخدمة اليوم للإشارة إلى مسيحيّ مصر، فقال الرسول (ص): "الله الله في قبط مصر؛ فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله." الراوي: أم سلمة هند بنت أبي أمية؛ المحدث: الألباني؛ المصدر: السلسلة الصحيحة؛ الصفحة أو الرقم: 3113؛ خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح رجاله ثقات. وقد علقت في مقالتي السابقة بعنوان من مسّ الأقباط بسوء لا يمت لأي دين بصلة، بتفصيل أكثر على موضوع أن قبط مصر تشير إلى المصريين وليس إلى الأقباط، وقلت من ضمن التفاصيل الأخرى أنه حتى إن اتفقنا على هذا، فالتعاليم التي توصينا بالنصارى كلهم عديدة وميثاق عهد الرسول (ص) لكل النصارى يكفي.

ولكي لا يُقَال أنّي—بكل كلامي السابق—أعرّض الجاهل لأن يُفْتَتَن في دينه فإني أشهد بأن وضع الرمز أعلاه إو إظهاره في أي مكان في المنزل هو حرام على المسلم، وأن ارتدائه على الملابس أو الجسم بأي شكل من الأشكال هو أيضاً حرام على المسلم، أما ما أقوله بالتحديد فهو أن وضع الشعار أو إظهاره لفترة محدودة على المقالات الإعلامية والمدونات وصفحات فيسبوك وما شابه، لغرض الإعلام والتشجيع على الوحدة والترابط، لم أجد دليلاً شرعياً على تحريمه.

وإن هذا وقت تضامن وتراحم وحب، وليس وقت رموز واختلاف فكر بيننا وبينهم، خاصة طالما لم يبالغ المسلم أو جاء تضامنه على حساب دينه لا سمح الله. فعلينا أن نوالي ديننا وأمتنا، ونتبرأ من كل فِكْر لا يرضي الله، ولكن إظهار شعارنا أو رمزنا مع شعار جيراننا لا يمكن أن يكون معناه شرطاً أننا نعترف بفكرهم، بل إننا نعبر بطريقة مرئية عن التضامن والوحدة والتراحم بين أمتنا وأمتهم.

أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى وموسى عبدي الله ورسوليه، وأشهد أن محمداً عليه الصلاة والسلام أوصى بالنصارى كلهم خيراً وخصّ قبط أو أهل مصر بوصية زائدة في عدة أحاديث صحيحة، وأشهد أن كل من مسّ الأقباط والنصارى بسوء فقد عصى الله ورسوله. وإني أؤمن أن من آذى الأقباط ليس بمسلم، فحتى الراغب في الجهاد من المسلمين يمكنه أن يجد ما يكفيه من الجهاد في أفغانستان والعراق وفلسطين. بل إن من فعل هذه الجريمة لا يتبع أي ديانة على الإطلاق وهو خائن وعميل وعدو للشعوب العربية كلها وللأديان كلها. اللهم أرنا جميعاً الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه؛ اللهم خِرْ لنا، واختر لنا، ولا تَكِلْنا إلى اختيارنا. أي باطل فيما كتبت هو منّي ومن الشيطان، والحق من توفيق الله ورحمته وستره، والحمد لله.