الأحد، نوفمبر 18

جبروت القلب الذي عرف الحق

والله الذي لا إله غيره، إن بعض الناس في هذا العالم يعرفون أن الإسلام لله وتوحيده هو دين الحق، يعلمون هذا في عقولهم، ولكن قلوبهم لم تعلم بعد، قلوبهم لم تقبل، قلوبهم لم تفهم.

فالفرق بين شخص مثل هذا، يعرف الحق في عقله، ولكن يمتنع عن اتباعه، مثلاً لخوف من أهل أو قبيلة، أو خوفاً على جاه أو شهرة أو مال، وبين شخص عرف الحق بقلبه، هو أن من فقه بقلبه لا يستريح أبداً حتى يتبع الحق...يظل الحك وعدم الراحة في القلب في صراع دائم مع الخوف، حتى لم يعد الشخص يطيق الصراع في قلبه فيستسلم...يستسلم لله سبحانه وتعالى فيُسلِم، ويشهد أن لا إله إلا الله. ومن يشهد أن لا إله إلا الله اليوم، لا محالة سيعرف محمداً بن عبد الله وعيسى بن مريم البتول وموسى عليهم الصلاة والسلام جميعا.

“وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَـٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ” ﴿الأعراف: ١٧٩﴾.

وهذا نفسه ينطبق على المسلمة والمسلم الذي يعرف الحق، يعرف الحلال والحرام، الصواب من الخطأ، ولكن يظل مُصِرّاً على عصيان الله، سواء بشرب خمر أو زنا أو ترك الصلاة أو ترك الحجاب. هؤلاء عرفوا الحق بعقولهم، ولكنهم لم يعرفونه بقلوبهم بعد. لأن القلب الذي عرف الحق لا يمكن أن تقف أمامه قوة في الوجود؛ يظل يحيك في الصدر، ويئنّ ويطنّ ويتقلّب ويرتفع ثم يهوى فينكسر ويتلوّى، حتى يكاد صاحب القلب أن يصاب بالجنون، ولا يستطيع أن يستمر في الحياة إلا بالاستسلام لله، وإسلام القلب له سبحانه وتعالى.

هذا هو الفرق بين المعرفة بالعقل والمعرفة بالقلب، وذاك هو…جبروت القلب الذي عرف الحق. رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ.

—ياسين رُكَّه

الاثنين، نوفمبر 5

تغيير الوطن والعالم: كيف؟ ولماذا ينجح أو يفشل؟

بعض الناس يريدون تغيير العالم، وينسون أن حكماء العصور كلها قالوا وأعادوا: غير نفسك، يتغير العالم.

تقريباً آخر مشاهير التاريخ الذين حاولوا توصيل هذه الرسالة كان غاندي، عندما قال: ’كن التغيير الذي تريد أن تراه في العالم‘.

بعض الناس تظن أن هذا تفلسف غير عملي ولا يفيد، والقضية ليست قضية تفكر وتأمل، ولكن عمل باليد. أنا أقول أنها قضية تفكر وتأمل [ثم] عمل باليد...عمل قائم على ما رآه العقل الراشد، كي يؤسس ما يمكن أن تراه العين الناظرة. والتغيير الخارجي فعلاً يبدأ من التغيير الداخلي، ونعم، إنها عملية تكاد تكون سحراً، وأشك أن تقدم العلم الملموس سيكتشف سرّ هذه العملية السحرية في أي وقت قريب. وأنا أعني ما أقول عندما أصفها بأنها أشبه بالسحر؛ فكر في الأمر، كيف يتغير العالم الملموس حولك في غضون دقائق عندما تنجح في تغيير ما بداخلك أنت؟ وهل يتغير العالم الخارجي الملموس حقاً أم تتغير نظرتك أنت له؟ أم أنه مزيج من هذا وذاك؟ هذه أسئلة لا أعرف لها أجوبة شافية في عصرنا هذا، وأملي هو أن الأجيال القادمة ستكتشف إجابات مقنعة لها كي يقتنع الأغلبية وتتغير بلادنا وأرضنا.

ما أعرفه وشاهدته وجربته بنفسي هو أن الشخص الذي ينجح في تغيير ما بداخله، تغيير نفسه—وبعض هذا التغيير يمكن القيام به في دقائق، بالفعل يبدو فجأة وكأنه يعيش في عالم مختلف عن العالم الذي كان يعيش فيه منذ دقائق. بالرغم من أن كل شيء كما هو من المنظور الفيزيائي الملموس، هو يعيش في عالم مختلف، ويرى أشيائاً مختلفة؛ فنعم، العملية تبدو وكأنها سحراً أوتنويماً مغنطيسياً أو ما شابه. وسرعان ما تجد هذا المرء يتحرك بدنياً، ولكن كل حركة الآن، كل حركة سواء كبيرة أو صغيرة، سريعة أو بطيئة، كل حركة تؤدي إلى تغيير حسي فيزيائي ملموس في بيئته المحيطة. وأي نوع من التغيير؟ تغيير يؤدي إلى تحول البيئة المحيطة إلى البيئة أو العالم الذي رآه هذا الشخص في عقله في خلال دقائق! هذا ما شاهدته بنفسي وجربته، والله شاهد على ما أقول. ونعم، ما شاهدته جعلني أقشعر وأقف للحظات بنظرة ذهول، أحاول أن أفهم ما يحدث أمامي، ولكن لم أستطع الفهم الكامل—فإن المشهد كان يبدو وكأنه سحراً أو مشهداً من فيلم خيالي وليس حدثاً واقعياً في عالم التليفزيون والوظائف والسياسة والحروب وحقوق الحيوان. شخص كان يرى عالماً محدداً لشهور أو سنوات، ثم غير شيئاً داخله، فبدأ يرى عالماً مختلفاً؛ ثم وقف وبدأ يتحرك، فبدأت البيئة المحيطة تتغير إلى البيئة المختلفة التي يراها هو الآن؛ فبدأ العالم الذي كان بصورة معينة لشهور أو سنوات يتغير في خلال دقائق إلى عالم لم يمكن لي أنا أو له هو أن نتخيله منذ بضع لحظات. والله كان الأمر كله أشبه بالسحر! لأني لم أعي كيف يمكن أن يتم التغيير الفيزيائي الملموس بهذه السرعة؛ لم أكن أتوقع شيئاً كهذا أبداً.

وكل ما استطعت أن أفكر فيه أو أتذكره كتبرير وشرح لما يحدث هو هذه الفكرة الأبدية والحكمة التي حاول الآلاف من الحكماء والأنبياء والرسل توصيلها إلى البشرية: التغيير يبدأ من الداخل. كن التغيير الذي تريد أن تراه في العالم. غيّر إيمانياتك، اقتناعاتك، افتح ذهنك وقلبك للاحتمالات والأمل؛ غير منظورك، غير مكانك، قف في زاوية مختلفة، أو حاول ببساطة أن ترى الأمر من منظور مختلف. غير نفسك أنت أولاً، يتغير العالم حولك؛ نعم، وكأنه سحرا.

هل تغيير ما حولنا سهل بعد تغيير أنفسنا أو تغيير ما بعقولنا وقلوبنا؟ نعم، هذا ما جعلني أشبهه بالسحر أكثر من مرة في مقالي هذا. إذن فما المشكلة؟ لماذا نفشل كثيراً في تغيير الظروف كأفراداً وشعوباً؟ لأن سخرية القدر، أو—بمعنى أدق—حكمة الله اقتضت أن تكمن الصعوبة في تغيير أنفسنا، وليس في تغيير العالم!

ولمن يؤمن بمحمد ورب محمد، هذا هو الدليل من آيات الله على كل كلامي: ’إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ‘.

إن كنت ترى وطنك متجهاً إلى الهاوية، فهو بالفعل متجه إلى الهاوية؛ إن كنت ترى ابنك فاشلاً، فهو بالفعل فاشل؛ إن كنت ترى الحزب السياسي الديني أو العالماني عدوك وعدو ميولك، فهو بالفعل عدوك. أما إن كنت ترى وطنك يتقدم، فهو بالفعل يتقدم؛ إن كنت ترى ابنتك صالحة، فهي بالفعل صالحة؛ وإن كنت ترى الحزب الديني أو العالماني شريكك المحتمل ومقاسمك ميول الجميع، فهو بالفعل شريكك. وكله بسببك أنت ومن يشاركونك الرؤية في العقل ويشاطرونك الشعور في القلب.

ولكن هيهات هيهات أن يكون تغيير الرؤية والشعور بهذه السهولة. هذا هو الفرق بين الإنسان الحر الذي يبحث عن الحق والخير في المجتمع، والخروف المبرمج في القطيع، الذي يبحث عمن يوافقه الرأي ويعطيه الشرعية فيقول له: ’انت صح وميّه ميّه يا حبيبي؛ دُول ولاد...‘.

—ياسين رُكّه